في أول قمة لمجموعة العشرين تُعقد على أرض أفريقيا، حمل ظهور نائب الرئيس الإندونيسي جبران راكابومينغ راكا، البالغ من العمر 37 عامًا، رمزية سياسية تتجاوز البروتوكول.
فبينما اعتادت الطاولة على قادة مخضرمين من اقتصادات كبرى، قدّم وصول جبران إلى جوهانسبرغ إعلانًا ضمنيًا بأن القوى الناشئة لم تعد تنتظر الإذن للمشاركة في صياغة النظام الاقتصادي العالمي، بل تسعى لقيادته.
وراء هذه الرمزية، كانت إندونيسيا تضع حجر الأساس لواحدة من أكثر خططها الجيو–اقتصادية جرأة، من بناء محور تعاون استراتيجي مع أفريقيا، تتقدم فيه جاكرتا بقدراتها الصناعية والوصول إلى سوق "آسيان"، فيما توفر أفريقيا موارد وفرص نمو هائلة في لحظة عالمية تتغير فيها موازين القوة.
منذ تأسيس مجموعة العشرين بعد أزمة 2008، وُعدت الدول النامية بمقعد حقيقي على طاولة القرارات الاقتصادية. لكن الواقع ظل مختلفًا، محاور التأثير بقيت في واشنطن وبروكسل وبكين، فيما لعبت اقتصادات الجنوب دور المستمع.
قمة جوهانسبرغ غيّرت هذا النمط؛ فأفريقيا استضافت للمرة الأولى، وجنوب أفريقيا أكدت أن صوت القارة لم يعد هامشيًا. وفي هذا الإطار، جاءت مشاركة إندونيسيا بصفتها "الجسر الآسيوي" لدعم هذا الاتجاه.
فجاكرتا، التي استضافت القمة قبل ثلاث سنوات في بالي، عادت اليوم لتُظهر دورًا مضاعفًا، لاعب آسيوي صاعد يدفع نحو تحالف اقتصادي جنوب–جنوب أكثر توازنًا.
جبران لم يذهب إلى القمة بصفة مراقب؛ بل اصطحب معه الوزير المنسق للشؤون الاقتصادية ونائب وزير المالية، في إشارة إلى أن الوفد الإندونيسي جاء للتفاوض ووضع أسس تعاون طويل الأمد، وليس لإلقاء الخطب.
طرحت إندونيسيا في جوهانسبرغ تصورًا يقوم على ثلاث ركائز رئيسة تلتقي فيها مصالح أفريقيا وآسيا، وتمنح الدول النامية وزنًا أكبر في الاقتصاد العالمي:
كانت أزمة الديون التي تخنق العديد من الدول الأفريقية محورًا رئيسًا في النقاش، وتتبنى إندونيسيا موقفًا داعمًا لإعادة هيكلة عادلة، مستفيدة من خبرتها في تجاوز أزمة آسيا المالية عام 1997.
ترى جاكرتا أن حماية الاقتصادات الأفريقية من الانهيار ليست مسألة تضامن فقط، بل ضرورة لحماية استثماراتها المتنامية، التي يُتوقع أن تبلغ 500 مليون دولار في 2025 – وكذلك لضمان شريك مستقر لشركاتها الصناعية.
تلاقي مصالح البلدين واضح في قطاع الطاقة والتحول المناخي؛ حيث تمتلك إندونيسيا أكبر احتياطي عالمي من النيكل، المادة الأساسية لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية، بينما تمتلك جنوب أفريقيا ثروات هائلة من البلاتين والطاقة المتجددة.
التعاون بين الجانبين يفتح الباب لشراكة تحويلية في قطاع الصناعات الخضراء، بعيدًا عن أنماط الاستغلال التقليدية التي طبعت العلاقة التاريخية بين القوى الكبرى والدول النامية.
رغم أن الذكاء الاصطناعي يبدو قضية تخص القوى المتقدمة، إلا أن إندونيسيا وجنوب أفريقيا طرحتا معًا قضية مختلفة: حماية الدول النامية من أن تتحول إلى “مستعمرات بيانات” لشركات التكنولوجيا الكبرى.
عبر التركيز على الأخلاقيات، وحماية العمال، ومعايير استخدام التكنولوجيا، تحاول جاكرتا وبريتوريا ترسيخ قواعد جديدة تمنع تفاقم الفجوة الرقمية العالمية.
لا يقتصر دور جبران على الرمزية العمرية، رغم كون هذا الجانب مهمًا. فالأجيال الشابة تشكل 70% من سكان إندونيسيا ومتوسط العمر في جنوب أفريقيا 28 عامًا، ما يعكس تحولات ديموغرافية عميقة.
هذا الجيل لا يحمل إرث الحرب الباردة ولا يثق بالتراتبية القديمة، ويطالب بنتائج اقتصادية ملموسة بدل الخطابات الأيديولوجية.
ركز جبران في خطاباته خلال القمة على لغة مباشرة: أرقام الاستثمار، بناء الممرات التجارية، نقل التكنولوجيا، وتطوير التصنيع المشترك.
وبهذا النهج، تبدو الدبلوماسية الجديدة لجاكرتا أكثر براجماتية وسرعة، ما قد يدفع التعاون بين بلدان الجنوب إلى مستويات غير مسبوقة.
تعتمد خطة إندونيسيا على نموذج مختلف عن النفوذ الصيني القائم على القروض الضخمة، وتطرح بديلًا قائمًا على شراكات اقتصادية، وربط الشركات، وفتح أسواق حقيقية.
تشير المؤشرات الأولية إلى توقع ارتفاع الصادرات الإندونيسية إلى أفريقيا بنسبة 15% مع فرص واسعة في الزراعة والطاقة والتصنيع المشترك، مدفوعة بالإعفاء من التأشيرة وما قد يرافقه من تضاعف محتمل للتجارة الثنائية خلال ثلاث سنوات.
كما يشمل التعاون إنشاء مجلس أعمال مشترك لتعزيز الروابط المؤسسية ودعم الشراكات التجارية المستقبلية.
لكن هذه الشراكات، كما يشدد بعض الخبراء، لن تكون مكتملة دون ضمان حقوق العمال، وحماية البيئة، وإشراك المجتمعات المحلية، حتى لا يتحول التعاون الجنوبي إلى إعادة إنتاج لنماذج الاستغلال القديمة.
تطرح خطة جبران رؤية جديدة لدور الدول المتوسطة في عالم يتجه نحو تعددية الأقطاب، حيث تسعى إندونيسيا إلى بناء شبكة مصالح متبادلة تعزز نفوذ الجنوب العالمي بدل السعي للهيمنة.
وإذا نجحت في تنفيذ وعودها، من تطوير الممرات التجارية إلى مشاريع التصنيع المشترك، فقد تتحول شراكتها مع أفريقيا إلى أحد أبرز التحولات الجيو-اقتصادية في العقد المقبل.