وسط تصاعد التوتر الروسي الأمريكي، توجهت أنظار العالم إلى بؤرة صراع جديدة بين واشنطن وموسكو في شمال أوروبا.
وكشفت صور أقمار صناعية نشر الولايات المتحدة طائرات استطلاع بحرية متقدمة من طراز P-8 بوسايدون في النرويج، معروفة بلقب "صائدي الغواصات"، لتنفيذ طلعات قرب إقليم كالينينغراد الروسي المطل على بحر البلطيق.
وتستخدم هذه الطائرات في مهام متعددة تشمل تعقب الغواصات، وجمع المعلومات الاستخباراتية، ومراقبة الأنشطة البحرية، في وقت يشتد فيه التوتر بين موسكو وحلف شمال الأطلسي "الناتو".
وأكدت القوات المسلحة النرويجية أن عدة طائرات P-8 بوسايدون انطلقت من مطار غاردرموين لدعم "أنشطة الحلفاء" في المناطق المجاورة للنرويج، ضمن جهود لتحسين قدرات الردع ومواجهة أي اختراقات روسية محتملة.
وأظهرت المعلومات أن المهام شملت رصد النشاط الروسي في بحر البلطيق، خصوصًا قبالة كالينينغراد، التي تُعد أهم قاعدة عسكرية روسية في شمال أوروبا.
وسبق أن انتشرت طائرات P-8 بوسايدون في قاعدة "كيفلافيك" الجوية في آيسلندا، وشاركت في مهمة بقيادة الناتو تحت الاسم الرمزي "حارس البلطيق" في أواخر يوليو تموز، بهدف تعزيز قدرة الحلف على مواجهة الأعمال المزعزعة للاستقرار في المنطقة، بحسب التصريحات الرسمية.
وتحمل هذه التحركات دلالات عدة، فهي ليست مجرد تعزيز لوجود الناتو، بل تعكس أيضًا مخاوف غربية من تهديدات موسكو للبنى التحتية تحت البحر، بما في ذلك خطوط الغاز وكابلات الإنترنت، إلى جانب نشاط الطائرات المسيّرة في بولندا والدنمارك والنرويج.
وأكد الخبراء أن العناد الروسي ووضوح أهداف موسكو أمام الغرب قد يدفعان الاتحاد الأوروبي لتعزيز قدراته الدفاعية في شرق القارة، خصوصًا في ظل استمرار المعارك في أوكرانيا واستخدام روسيا للمسيرات وتهديد بعض المطارات الأوروبية.
وأشاروا إلى أن هذا التحرك قد يخلق مخاطر استراتيجية إذا تراجعت الولايات المتحدة عن التزاماتها تجاه أوروبا، بما قد يؤثر على التوازن الأمني في القارة ويزيد من التوتر مع موسكو.
وأضاف الخبراء أن نشر الغواصات وصائدي الغواصات في النرويج، إلى جانب طائرات "بي-8" الأمريكية، يمثل حلقة جديدة في سلسلة التوترات ولا يشكل بداية لجبهة جديدة، لكنه يزيد من احتمالات الاحتكاك العسكري ويؤدي إلى تصعيد محتمل بين موسكو وواشنطن، ولا سيما في المناطق التي تعتبرها روسيا ضمن مجالها الحيوي.
إبراهيم كابان، مدير شبكة الجيو-استراتيجي للدراسات، أكد أن العناد الروسي ووضوح الأهداف الروسية أصبحا جليين أمام الولايات المتحدة، وهو ما قد يدفعها إلى العودة إلى نقطة البداية من خلال دعم مساعي الاتحاد الأوروبي لتقوية دفاعاته في شرق القارة.
وأضاف، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن نتائج مؤتمر كوبنهاغن غير الرسمي، إلى جانب التحركات الروسية الأخيرة سواء من خلال استخدام المسيرات أو تهديد بعض المطارات الأوروبية واستمرار المعارك في أوكرانيا، تشير إلى أن روسيا لا تُظهر أي نية حقيقية للتراجع أو الدخول في حوار فعلي مع الاتحاد الأوروبي.
وأوضح كابان أن هذا الوضع قد يدفع أوروبا إلى تعزيز نفوذها وقدراتها في مواجهة موسكو، خصوصًا في ظل وجود معاهدة حلف الناتو التي تلتزم بحماية الدول الأعضاء.
وذكر أنه في حال تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها بحماية أوروبا، فقد يؤدي ذلك إلى تراجع الأوروبيين عن التزاماتهم تجاه الناتو، وهو ما يشكل خطرًا حقيقيًّا على الاستراتيجية الأمنية المستقبلية للقارة.
وأشار إلى أن انتشار الغواصات وصائدي الغواصات في النرويج، إلى جانب نشر طائرات "بي-8"، يخلق جبهة توتر جديدة في شمال أوروبا، خاصةً أن نشر قوات وأسلحة جديدة تابعة لحلف الناتو، إلى جانب تعزيزات روسية مماثلة في المنطقة، يُعد تطورًا جديدًا لمسار الصراع الأوروبي الروسي، الذي بدأ في أوكرانيا لكنه يتوسع بشكل غير مباشر.
وتابع: "لا أعتقد أن روسيا ستستمر في هذا التوسع، لأن عودة الولايات المتحدة إلى الحاضنة الأوروبية قد تعني خسارة استراتيجية لروسيا في المستقبل، فهي لن تكون قادرة على مواجهة أوروبا وأمريكا معًا".
من جانبه، قال بسام البني، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، إن نشر طائرات P-8 الأمريكية يمثل حلقة جديدة في سلسلة المواجهة المستمرة بين الغرب وموسكو، وليس بداية لفتح جبهة جديدة.
وأضاف، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن هذا التحرك يُعد دفاعيًّا هجوميًّا، يهدف إلى مراقبة النشاط الروسي عن كثب ورفع مستوى الردع، لكنه في المقابل يزيد من احتمالات الاحتكاك العسكري في منطقة مشتعلة، مما يرفع من هامش أي مواجهة غير محسوبة.
وتابع البني: "السؤال الأبرز الذي تتركه هذه التطورات هو: هل نحن أمام استعراض للقوة فحسب، أم أن الأمور تمهد بالفعل لمرحلة أكثر توترًا في الصراع؟".
وأضاف المحلل السياسي أن أي تصعيد عسكري من قبل واشنطن، أو حتى بدعم منها، سيؤدي إلى توتر جديد بين روسيا والولايات المتحدة، خاصة في ظل خطابات ترامب التصعيدية ومناوراته السياسية التي تتسم بالغموض أحيانًا، والتقارب الحذر مع موسكو أحيانًا أخرى.
وأشار البني إلى أن التحركات الأمريكية تُقرأ في موسكو على أنها محاولة لمحاصرة النفوذ الروسي، ولا سيما في مناطق تعتبرها روسيا ضمن مجالها الحيوي.
وأوضح أن هذا الإدراك المتبادل لطبيعة التحركات يعزز من مناخ انعدام الثقة بين الجانبين، ويجعل أي خطأ تكتيكي قابلًا للتصعيد إلى مستويات أخطر.