فيما بدت خطوط الجبهة وكأنها تجمّدت بفعل المعركة المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، عادت القوات الروسية لتخطو بثبات نحو عمق الأراضي الأوكرانية، فارضة واقعًا ميدانيًا جديدًا في شرق البلاد.
وشهد الأسبوع الأول من يوليو/ تموز تحولًا لافتًا على جبهتي دونيتسك وخاركيف، حيث كثفت القوات الروسية من وتيرة هجماتها، ونجحت في تحقيق مكاسب نوعية، وسط تراجع في دفاعات كييف المنهكة بعد أشهر طويلة من الاستنزاف البشري والعسكري.
وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أخيرًا سيطرتها على قريتين استراتيجيتين: الأولى، بيدوبنه، جنوب شرق دونيتسك، على بعد 7 كيلومترات فقط من حدود دنيبروبيتروفسك، ما يمثّل اختراقًا مقلقًا باتجاه العمق الصناعي والزراعي في شرق أوكرانيا؛ والثانية، سوبوليفكا، وتقع غرب بلدة كوبيانسك في خاركيف، وتشكل خاصرة حساسة لخطوط الإمداد الأوكرانية.
ووفقًا لتقدير معهد دراسة الحرب الأمريكي، فإن هذه المكاسب تُعد الأكبر من نوعها منذ نوفمبر/ تشرين الأول 2024، وتعكس تحوّلًا واضحًا في ميزان السيطرة الميدانية، مدفوعًا بعوامل مترابطة، أبرزها تراجع الإمدادات الغربية لأوكرانيا، وتعليق بعض شحنات الأسلحة الأمريكية، إلى جانب استنزاف الموارد البشرية.
ومع هذه التطورات المتسارعة، يبرز التساؤل: هل تقف كييف على أعتاب مرحلة دفاعية جديدة، في وقت تتحرك فيه الدول الغربية لمحاولة استعادة التوازن الميداني؟
ويرى خبراء أن التصعيد الروسي الأخير جاء نتيجة تعثر المسار التفاوضي، وتزايد الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، لا سيما في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
وقال محللون في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" إن الولايات المتحدة، رغم مواقفها المتذبذبة، لا تزال تمد كييف بالسلاح بشكل مباشر أو عبر وسطاء، ما ساعد الأخيرة على تنفيذ ضربات دقيقة استهدفت مواقع وشخصيات روسية بارزة.
وأوضحوا أن موسكو تسعى إلى فرض أمر واقع جديد على الأرض، خصوصًا في خاركيف وسومي وأوديسا، لاستخدامه كورقة ضغط تفاوضية.
ولفت الخبراء إلى أن استمرار الدعم الأمريكي والأوروبي لكييف يزيد احتمالات التصعيد الروسي، في ظل غياب أي بوادر لحوار سياسي جاد، ما قد ينذر بتحولات عسكرية عنيفة تُغير ملامح الصراع.
وفي هذا السياق، قال الدكتور سمير أيوب، الخبير في الشؤون الروسية، إن الحديث يتزايد عن المساعدات العسكرية المقدمة لأوكرانيا، في ظل تذبذب الموقف الأمريكي من مسألة إرسال الأسلحة، إلا أن واشنطن ما زالت تمد كييف بالدعم العسكري والتقني.
وأشار إلى أن استهداف بعض القادة الروس لم يكن ليحدث لولا الدعم الاستخباراتي الغربي، بما في ذلك الأقمار الصناعية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، مؤكدًا أن روسيا تنظر إلى هذا الدعم باعتباره استفزازًا مباشرًا.
وأضاف أن موسكو بدأت باتباع سياسة ضغط عسكري مكثّف، لا تقتصر على الضربات الصاروخية والطائرات المسيّرة فحسب، بل تشمل التقدّم البري في مقاطعات ذات أهمية استراتيجية واقتصادية مثل خاركيف وسومي ودنيبروبيتروفسك.
وأكد أيوب أن روسيا تعد خاركيف "مدينة روسية" من الناحية الجغرافية والتاريخية، بغض النظر عن موقعها القانوني، مشددًا على أن التقدّم الروسي هناك يعكس استراتيجية مدروسة تهدف إلى إجبار كييف على الرد على المقترحات الروسية التي طُرحت سابقًا في مفاوضات إسطنبول.
وأشار إلى أن وقف الحرب مرتبط بموافقة أوكرانيا على شروط روسيا، وأبرزها: تحييد كييف، ومنع انضمامها إلى الناتو، وحظر الأسلحة بعيدة المدى، وتخفيض حجم قواتها المسلحة.
وشدّد على أن استمرار الدول الغربية في تزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة، خاصة بعيدة المدى، يعقّد فرص الحل السياسي، مرجّحًا تصعيدًا روسيًا واسعًا قد يشمل محاولات للسيطرة على سومي أو خاركيف أو أوديسا.
من جانبه، قال الدكتور نزار بوش، أستاذ العلوم السياسية في جامعة موسكو، إن تعثر المفاوضات بين موسكو وكييف يدفع روسيا إلى التصعيد ميدانيًا لتعزيز موقعها التفاوضي إذا استؤنفت محادثات إسطنبول.
وأوضح أن الدعم الأوروبي والأمريكي المستمر، وإن كان فعّالًا من الناحية اللوجستية، لا يغيّر من الموقف الروسي، الذي يزداد تصلبًا مع تعمق الأزمة.
وأشار بوش إلى أن الجيش الأوكراني يعاني من إنهاك كبير، وخسائر بشرية تُقدّر بمئات الآلاف، ما دفع السلطات إلى بحث إمكانية تجنيد النساء، في إشارة إلى الضغط المتصاعد داخل أوكرانيا.
وأضاف أن الضربات الروسية، سواء على الجبهات أم في العمق الأوكراني، بدأت تؤتي ثمارها عسكريًا، مشددًا على أن موسكو لن توقف تصعيدها ما دام الغرب يرفض العودة إلى طاولة المفاوضات.
وأكد أن الخيار الروسي الوحيد في المرحلة الحالية هو توسيع العمليات ضد مواقع الجيش الأوكراني، ومراكزه اللوجستية ومستودعات السلاح، لفرض وقائع جديدة تسبق أي تسوية سياسية محتملة.