بينما يغرق شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، تحاول باريس الظهور كقوة دولية قادرة على تحريك المياه الراكدة.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن خلال مؤتمر دولي في باريس عن تعبئة أكثر من 1.5 مليار يورو للمساعدة الإنسانية في منطقة البحيرات العظمى، معلناً كذلك عزم باريس المساعدة على إعادة فتح مطار غوما أمام رحلات إنسانية خلال "الأسابيع المقبلة"، إضافةً إلى فتح ممرات آمنة لإيصال المساعدات.
ورأت صحيفة "لوموند" الفرنسية أن هذه المبادرة الدولية حملت بعدًا إنسانيًا وسياسيًا واضحًا، لكن ردود الفعل المحلية والإقليمية كشفت حدود قدرة باريس على فرض حل سريع على الأرض.
في الجهة المقابلة، رفضت حركة إم 23 المسلحة، المسيطرة فعليًا على غوما ومناطق واسعة في شمال كيفو، دعوة باريس لإعادة فتح المطار واعتبرتها "غير مناسبة" وأن أي خطوة من هذا النوع يجب أن تكون ضمن إطار المفاوضات الجارية.
وأشارت بذلك إلى أن القرار السياسي والعملي لممرات الوصول ومرافق النقل رهن بوجود اتفاقات ميدانية، ورضا أطراف السيطرة الفعلية.
حتى حكومة رواندا أعربت عن تشككها عمّا إذا كان ممكناً إعادة فتح المطار دون مشاركة الأطراف الفاعلة على الأرض.
هذه المواقف تبرز نقطة أساسية: النفوذ الفعلي لا يقاس بالبيانات البلاغية بل بالسيطرة الميدانية، والقبول المحلي.
من جانبها، رأت إذاعة "آر.أف.إي" الفرنسية أنه من بين أوراق القوة لفرنسا في الكونغو الديمقراطية، القيادة الدبلوماسية، والقدرة على تعبئة التبرعات.
وأوضحت أن باريس أظهرت قدرة على حشد دول ومنظمات لتقديم مساعدات مالية وإنسانية كبيرة، وهو ما يترجم نفوذاً سياسياً يمكن توظيفه للضغط أو للمكافأة.
ورأت أن تصريحات ماكرون حول 1.5 مليار تبدو دليلاً على هذا البعد.
وأشارت الإذاعة إلى أن التمثيل الرسمي داخل مؤسسات دولية (الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي)، إحدى أهم أدوات باريس، موضحة أن لفرنسا وجوداً مؤثراً داخل أروقة القرار الدولي يمكنه الدفع لتقوية ولايات بعثات أممية أو فرض آليات مساءلة.
ولفتت الإذاعة إلى القوة الرمزية والناعمة لفرنسا، فهي تملك رأسمال تجارياً دبلوماسياً مع دول وشركاء إقليميين، وقد تستخدمه لتحريك مسارات تفاوضية أو مبادرات إنسانية بعلامة فرنسية.
ووفقاً للإذاعة الفرنسية، فإن الأدوات الاقتصادية والقانونية من أهم الأوراق الفرنسية، فالعقوبات، وتجميد أصول، وفرض قيود على التجارة أو أفراد يمكن أن تُستخدم كضغط، لا سيما بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
كما أن لفرنسا شبكات قديمة في المنطقة، فالعلاقات التاريخية لما يعرف بـ"فرانكافريك" تمنح باريس قنوات اتصال غير رسمية مع نخب إقليمية، لكنها، اليوم، عُرضة للربط بالتهم بالهيمنة أو التدخل.
من جهتها، قالت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية إن فرنسا تفقد النفوذ الميداني، فالميليشيات مثل "إم 23" تسيطر ميدانياً على طرق وحواجز ومطار غوما.
وأضافت أن فرنسا دولة خارجية لا تملك قوات برية في مسرح العمليات هذه اللحظة لتفرض سيطرتها، معتبرة أن أي قرار بفتح مطار يحتاج موافقة من يسيطرون فعليًا.
ولفتت الصحيفة الفرنسية إلى الدور المحوري لرواندا، موضحة أن اتهامات (مرفوضة رسمياً أو مثارة) بدعم رواندا لـ إم 23 تجعل من الحسم السياسي أيضاً رهنًا بموقف كيغالي، أي أن باريس تواجه لاعبًا إقليمياً لديه علاقات عميقة بالملف.
ورأت الصحيفة الفرنسية أن فرنسا لا تملك وقف الحرب فعلاً، موضحة أنه لا تملك ذلك بمفردها، خاصة ليس بسرعة.
وقالت إن باريس تملك أوراقًا دبلوماسية ومالية ونفوذاً في المحافل الدولية يمكنها من التأثير، وتقديم حلول إنسانية، ومبادرات ضغط، لكنها لا تملك سيطرة ميدانية على الأرض أو قدرة على إجبار طرف مسلح ميداني أو دولة إقليمية على الانصياع خارج إطار تفاوض إقليمي ودولي أوسع.
وأشارت إلى أن نجاح أي مبادرة فرنسية يتوقف على قدرتها على التنسيق مع شركاء إقليميين (بما في ذلك الوساطات في الدوحة) والضغط الموحد عبر أدوات دبلوماسية-اقتصادية وقنوات أممية.
كما اعتبرت أن مؤتمر باريس أظهر قدرة فرنسا على تحريك موارد ورفع الصوت الدولي للقضية الإنسانية في شرق الكونغو، لكنه في الوقت نفسه كشف حدود الإمكانات.
وأوضحت أن من يتحكم عمليًا هم اللاعبون الميدانيون (إم 23)، والرعاة الإقليميون (من بينهم رواندا)، وحل الأزمة يتطلب مزيجًا من الضغوط الدولية المنظمة، الوساطة الإقليمية، والتدخلات السياسية التي تراعي حساسية السيادة، واتهامات التدخل.