قبل عامين، لقي يفغيني بريغوجين، قائد مجموعة فاغنر، مصرعه في حادث تحطم طائرة غامض بعد شهرين فقط من قيادته تمرّدا عسكريا ضد وزارة الدفاع الروسية.
كان ذلك الحدث بداية النهاية لـ"إمبراطورية فاغنر"، التي تمددت في أوكرانيا وأفريقيا، قبل أن تتفكك تحت وطأة الصدام مع الكرملين، بحسب مجلة " فورين بولسي".
اليوم، لم يبقَ من إرث فاغنر سوى جيوب محدودة في جمهورية أفريقيا الوسطى، فيما ظهر بديل رسمي: "فيلق أفريقيا"، ذراع وزارة الدفاع الروسية.
يحاول فيلق أفريقيا أن يقدّم نفسه كقوة شرعية تُوفر التدريب، ومكافحة التمرد، وخدمات أمنية شاملة. لكن في جوهره، يكرر النموذج ذاته الذي ميّز فاغنر: تقديم وعود بالأمن مقابل النفوذ والموارد، مع خدمة بقاء الأنظمة الاستبدادية.
الفرق الأساسي أن الفيلق، بعكس فاغنر، مرتبط مباشرة بالكرملين؛ ما يجعله عُرضة لتبعات أي فشل أو انتهاك، داخليا وخارجيا.
رغم شعار "المهمة أُنجزت"، غادرت فاغنر مالي بعد ثلاث سنوات من العجز عن وقف تمدد الجهاديين أو كبح النزاعات الداخلية؛ انتقال المهمة إلى فيلق أفريقيا لم يغيّر شيئا ملموسا. بل إن روسيا طالبت أفريقيا الوسطى بقطع علاقاتها مع فاغنر وتوقيع عقد جديد مع الفيلق؛ ما كشف عن الطبيعة الابتزازية لهذه الشراكة: ليست تحالفات متكافئة، بل تبعية كاملة لموسكو.
لا تُخفي روسيا أهدافها في أفريقيا، فهي تسعى لاستغلال موارد الذهب واليورانيوم والمعادن الاستراتيجية، وتأمين موانئ على البحر الأحمر والأطلسي مثل غينيا الاستوائية، مع تعزيز حضورها العسكري في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
بهذه الاستراتيجية منخفضة الكلفة، تعمل موسكو على تقويض النفوذ الغربي وترسيخ نفسها كقوة لا غنى عنها في القارة.
وفي تحوّل لافت، استضافت روسيا أول اجتماع رسمي مع وزراء دفاع "تحالف دول الساحل"، ووقّعت مذكرة تفاهم دفاعية.
هذه الخطوة تُظهر انتقال الكرملين من العمل السري عبر المرتزقة، إلى تطبيع حضوره العسكري علنا، في محاولة لإضفاء شرعية على نفوذه.
لكنّ هذا التحول محفوف بالمخاطر؛ فكل خطأ أو مجزرة يرتكبها فيلق أفريقيا ستُنسب مباشرة لموسكو؛ على عكس فاغنر، التي كان يمكن التنصل منها، فإن الفيلق الرسمي يُحمّل روسيا تكلفة سمعة دولية، حتى لدى الرأي العام الأفريقي الذي بات يرى موسكو كفاعل استغلالي أكثر منه شريكا موثوقا.
فيما ترسخ الصين حضورها في أفريقيا عبر مشاريع بنية تحتية طويلة الأمد، تكتفي روسيا بعرض القوة الخشنة بأدوات رخيصة وسريعة، ما يحد من قدرتها على بناء استقرار مستدام.
إزاء هذا المشهد، تواجه واشنطن إغراء الدخول في اللعبة نفسها: صفقات أمنية سريعة عبر شركات خاصة، شبيهة بفاغنر؛ لكن هذا النهج يهدد بتقويض مصداقية أمريكا وتحويلها إلى نسخة أخرى من روسيا.
يكمن البديل الاستراتيجي في بناء المؤسسات وإصلاح قطاع الأمن، وهي أدوات أكثر صعوبة لكنها أقدر على خلق شراكات مستدامة، كما تُظهر تجارب كينيا والصومال.
في النهاية، فإن فيلق أفريقيا يرمز إلى نفوذ روسي قائم على الانتهازية أكثر من القوة؛ إنه نفوذ مُزعزع للأمن، لكنه هش وأجوف.
كما أن التحدي أمام الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة، هو عدم محاربة موسكو بأدواتها، بل بالتمسك بما يمنحها ميزة نسبية: الاستقرار طويل الأمد عبر المؤسسات.