في خطوة قلبت موازين السياسة الدولية وأشعلت الجدل في العواصم العالمية، أصبحت روسيا أول دولة تعترف رسميًا بحكم حركة طالبان في أفغانستان، لتمنح الحركة دفعة غير مسبوقة في مساعيها المستمرة منذ أربع سنوات لنيل الشرعية الدولية.
هذا الاعتراف، الذي قد يبدو رمزيًا في ظاهره، يحمل في طياته أبعادًا استراتيجية عميقة لموسكو.
فبعد سلسلة الانتكاسات في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تبحث روسيا عن إظهار نفسها كقوة دولية جريئة، قادرة على تحدي الأعراف الغربية وفرض أجندتها الخاصة في قلب آسيا.
الخطوة الروسية مرشحة لإطلاق تأثير "الدومينو" في آسيا الوسطى؛ حيث رفعت كازاخستان طالبان من قوائم الإرهاب قبل أشهر، وأوزبكستان وطاجيكستان تُظهران إشارات تقارب حذر، مدفوعتين بمخاوف مشتركة حول الأمن الحدودي. بل إن دولًا تدور في فلك موسكو، مثل بيلاروسيا، قد تسير على خطى الكرملين قريبًا.
ووفق محللين، يهدف الاعتراف إلى تثبيت موقع روسيا كوسيط لا غنى عنه في المنطقة، حيث يؤثر استقرار أفغانستان بشكل مباشر على الأمن الإقليمي، خصوصًا في مواجهة تمدد تنظيم "داعش – ولاية خراسان".
رحّبت الصين، الشريك الاستراتيجي لموسكو، بخطوة الكرملين معتبرة أنها تعكس "سياسة صداقة مع الشعب الأفغاني"، لكنها تجنبت الاعتراف الرسمي حتى الآن.
أما إيران، التي تتعامل اقتصاديًا مع طالبان، فما زالت أسيرة قلق شعبي عميق من الحركة، ولم تُبدِ نية واضحة لاتباع النهج الروسي.
بحسب أليكسي ساخاروف، الباحث في مؤسسة "أوبزرفر" بالهند، فإن الهدف الأساس لموسكو هو "تعزيز التعاون الأمني ضد الإرهاب، خصوصًا داعش-خراسان".
هذا التنظيم كان وراء هجوم مروع في ضواحي موسكو مارس 2024 أسفر عن مقتل 145 شخصًا، ما يجعل التعاون الأمني مع طالبان أمرًا ملحًا للكرملين.
لكن المحللين يؤكدون أن الفوائد العملية محدودة؛ فالتعاون الأمني والاقتصادي كان قائمًا بصورة غير رسمية منذ فترة.
لذا، فإن الاعتراف الروسي يبدو في جوهره خطوة رمزية تهدف لإعادة تموضع روسيا دوليًا أكثر من كونه صفقة استراتيجية ضخمة.
في المقابل، طالبان هي الرابح الأكبر؛ حيث إن اعتراف أول عضو دائم في مجلس الأمن بها، يرفع أسهمها التفاوضية، ويكسر جزءًا من العزلة الدبلوماسية، ويفتح الباب لشراكات أوسع دون ضغوط مباشرة حول قضايا مثل حقوق المرأة أو الحكم الشامل.
لكن الاعتراف الروسي فجّر موجة انتقادات من نشطاء حقوقيين، بعد تحذير النائبة الأفغانية السابقة شكرية باراكزاي، التي فرت من كابول، من أن موسكو "اختارت تجاهل حقوق النساء والأقليات مقابل مصالح جيوسياسية ضيقة"، مؤكدة أن الخطوة قد تشجع طالبان على المزيد من التشدد.
هكذا، يجد العالم نفسه أمام معادلة معقدة: اعتراف روسيا يمنح طالبان شرعية تحتاجها بشدة، لكنه يفتح في الوقت ذاته بابًا لصدامات جديدة بين موسكو والغرب، ويضع حقوق الإنسان في أفغانستان على المحك.
فهل يُكتب لهذه المقامرة الروسية أن تتحول إلى بداية إعادة تشكيل النظام الإقليمي؟ أم أنها مجرد شرارة جديدة في صراع دولي أوسع تدفع كابول ثمنه؟