logo
العالم

بين التنمية والأمن.. مستقبل أوكرانيا أمام صراع الأولويات الإستراتيجية

آثار غارات روسية على كييفالمصدر: رويترز

بين مدن مدمرة واقتصاد منهك، وجبهة لا تزال مفتوحة على احتمالات التصعيد، تبدو أوكرانيا مطالبة بإعادة تعريف أولوياتها، وتحديدًا بناء دولة قابلة للحياة اقتصاديًا دون التفريط في متطلبات الردع والأمن طويل الأمد. 

أخبار ذات علاقة

آثار القصف الروسي على كييف

هجوم روسي يقطع التدفئة عن آلاف المباني في كييف

هذا التوازن يتجسّد في خطة السلام المكونة من 20 نقطة، التي كشف عنها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قبل أيام، بعد مفاوضات مكثفة مع الجانب الأمريكي.

وُصفت هذه الخطة في كييف وواشنطن بأنها أكثر واقعية من النسخة السابقة ذات الـ28 بندًا، والتي تعكس تحولاً في المقاربة الأمريكية من طرح شروط قصوى إلى محاولة هندسة تسوية قابلة للتطبيق سياسيًا وأمنيًا.

واعتبر زيلينسكي الخطة تطورًا كبيرًا، مشيرًا إلى أنها تتضمن ضمانات أمنية قوية، لكنه أقر، في الوقت نفسه، بأن القضايا الأكثر حساسية، وعلى رأسها مستقبل دونباس، لا تزال دون حسم.

ومن الناحية الاقتصادية، تراهن كييف على إعادة إعمار واسعة النطاق، بتكلفة قد تصل إلى 800 مليار دولار، عبر مزيج من المنح، والقروض، واستثمارات القطاع الخاص.

وتتركز على إشراك الشركات الأمريكية في إعادة بناء البنية التحتية للطاقة، وإنشاء صندوق تنمية لدعم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إلى جانب تسريع اتفاقيات التجارة، والوصول المميز إلى الأسواق الأوروبية.

ووفقاً للمراقبين، فإن هذا الطموح الاقتصادي يصطدم بجدار الأمن، خاصةً أنها تضع الضمانات الأمنية في قلب التسوية عبر ترتيبات تشبه المادة الخامسة من ميثاق الناتو، دون انضمام رسمي.

وتشمل هذه الضمانات قوة أوروبية متعددة الجنسيات، وآلية مراقبة لوقف إطلاق النار، والحفاظ على جيش أوكراني قوامه نحو 800 ألف فرد في زمن السلم، إلى جانب استخدام الأصول الروسية المجمدة لدعم التعافي.

لذلك تكشف المفاوضات الجارية أن أوكرانيا لا تواجه خيارًا بين إعادة الإعمار أو التحصين، بل اختبارًا أصعب يتمثل في الجمع بينهما، خاصة أن كييف تسعى إلى جذب الاستثمارات، وبناء اقتصاد حديث، مطالبة، في الوقت نفسه، بإدارة حالة ردع دائم.

ويرى خبراء أن مستقبل أوكرانيا يُصاغ في منطقة شديدة التعقيد بين متطلبات إعادة الإعمار، وضرورات التحصين الأمني، حيث لا يمكن فصل مسار التنمية عن الحسابات العسكرية والاستراتيجية.

وأشار الخبراء إلى أن الرؤية الأمريكية تسعى إلى بناء دولة قادرة على التعافي الاقتصادي دون التخلي عن جاهزية الردع، عبر ضمانات أمنية قوية لا تصل إلى حد التصعيد المباشر.

التنمية والدفاع

الباحث الإستراتيجي، هشام معتضد، أكد أن الخطة المطروحة بشأن أوكرانيا لا يمكن قراءتها باعتبارها مجرد مسار لإنهاء الحرب، بل كمحاولة لإعادة هندسة دولة تعمل تحت ضغط الصراع. 

أخبار ذات علاقة

ترامب وزيلينسكي في لقاء سابق بالبيت الأبيض

وسط فتور أمريكي.. زيلينسكي يحمل إلى واشنطن خطة جديدة للسلام

وقال في تصريحات لـ"إرم نيوز" إن جوهر هذه الرؤية يقوم على تداخل عميق بين إعادة الإعمار ومتطلبات التحصين الأمني، في معادلة لا تسمح بالفصل بين التنمية والدفاع، مشيرًا إلى أن السؤال المحوري لا يتعلق بإعادة البناء فقط، بل بطبيعة الدولة التي ستتشكل بعد الحرب.

وأشار معتضد إلى أن الخطة تنطلق من تثبيت السيادة كمرتكز سياسي، لكنها، في الوقت نفسه، تُقِر بواقع ميداني صلب عبر تثبيت خطوط تماس بحكم الأمر الواقع، موضحًا أن هذا التناقض يعكس براغماتية أمريكية تقوم على الاعتراف بالوقائع دون منحها شرعية نهائية.

وذكر الباحث الإستراتيجي أن ذلك يضع مستقبل أوكرانيا في منطقة رمادية بين نصر غير مكتمل وتسوية غير مستقرة، ما يجعل التحصين طويل الأمد أولوية بنيوية.

وأضاف أن الضمانات الأمنية المقترحة، التي تحاكي روح المادة الخامسة من حلف الناتو دون الانضمام الرسمي، تكشف تصورًا أمريكيًا لأوكرانيا باعتبارها دولة جبهة، لا عضو تحالف، وهو ما يفرض على كييف عبئًا دائمًا يتمثل في الحفاظ على قدرات عسكرية كبيرة.

وأوضح معتضد أن هذا الواقع يخلق توترًا دائمًا بين متطلبات التعافي الاقتصادي وحالة التعبئة الأمنية المستمرة.

وبيّن الباحث الإستراتيجي أن الخطة الاقتصادية، رغم طموحها، لا تنفصل عن الحسابات الإستراتيجية، إذ إن ربط إعادة الإعمار بالشركات الأمريكية والأوروبية يسعى إلى تحويل أوكرانيا إلى نموذج جيو-اقتصادي مبرر للاستثمار الضخم، لكنه في المقابل يجعلها هدفًا دائمًا للضغط الروسي.

وأشار إلى أن أوكرانيا ما بعد الاتفاق لن تكون دولة سلام تقليدية، بل دولة تماس إستراتيجي تُدار فيها التنمية كأداة من أدوات الردع، ويتوقف نجاحها على الالتزام الغربي طويل الأمد، وقدرة كييف على إدارة التوتر دون الانهيار.

مسارات متشابكة

من جانبه، قال خبير العلاقات الدولية، د. محمد عثمان، إن المبادرة الأمريكية منذ مراحلها الأولى ربطت، بشكل مباشر، بين إعادة إعمار أوكرانيا ووقف الحرب، موضحًا أن البعد التنموي لم يُطرح يومًا بمعزل عن الاعتبارات الأمنية والعسكرية، في انعكاس لطبيعة الصراع وتشابك مساراته.

وأكد في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن الخطة الأمريكية في نسختها الأخيرة أكثر اختصارًا وواقعية بعد تقليص بنودها، هو ما يعكس محاولة لجعلها قابلة للنقاش التفاوضي.

وأضاف عثمان أن التعديلات شملت حذف أو تعديل بنود وُصفت بأنها مجحفة، خاصة تلك المتعلقة بالانسحاب من دونيتسك، في خطوة تهدف إلى تخفيف حدة الرفض المحتمل، سواء من الجانب الأوكراني أو الروسي.

وأشار إلى أن الخطة المعدلة عززت بند الضمانات الأمنية، بحيث أصبحت أقرب في مضمونها إلى آليات الدفاع المشترك دون الوصول إلى الانضمام الرسمي لحلف الناتو، تجنبًا لتصعيد مباشر مع روسيا. 

أخبار ذات علاقة

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي

زيلينسكي: مستعد لعرض "خطة ترامب" للاستفتاء الشعبي

وقال عثمان إن المبادرة تطرح مسارًا واسعًا لإعادة الإعمار، بتكلفة ضخمة قد تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، لافتًا إلى أن آليات التمويل لا تزال قيد النقاش ضمن مشاورات تجمع واشنطن وكييف.

وبين أن الولايات المتحدة تنظر إلى إعادة إعمار أوكرانيا كفرصة اقتصادية وإستراتيجية، سواء عبر إشراك الشركات الأمريكية أو من خلال دمج كييف في الاقتصاد الغربي.

وأوضح خبير العلاقات الدولية أن الحسابات الأوروبية تختلف، إذ يركز الأوروبيون على تعزيز البنية الأمنية والعسكرية لأوكرانيا باعتبارها جزءاً من مشروع أوسع لبناء قدرات ردع أوروبية مستقلة نسبيًا.

وشدد على أن نتائج هذه المبادرة لا يمكن حسمها الآن، في ظل استمرار الحرب، وترجيح أن يظل مسار التفاوض طويلًا، إلى أن يفرض الميدان موازين القوى النهائية.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC