يقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عند مفترق طرق بالغ الحساسية؛ إذ تتقاطع خسائر ميدانية متسارعة مع ضغوط دبلوماسية أمريكية غير مسبوقة، وتتقلص المساحة المتاحة للمناورة يوما بعد يوم.
ميدانيا، تكشف الأرقام عن صورة قاتمة؛ إذ تسيطر روسيا حاليا على نحو 116,057 كيلومترا مربعا من الأراضي الأوكرانية، أي ما يعادل 20% من مساحة البلاد.
والانسحابات الأوكرانية الأخيرة من مواقع حساسة، وعلى رأسها بلدة سيفيرسك في دونيتسك، عكست تآكل الخطوط الدفاعية بوتيرة هي الأسرع منذ بداية الحرب.
ووصفت التقارير الغربية المشهد في أواخر عام 2025 بأنه أقرب إلى حالة إنهاك شامل، حيث لم تعد كييف تخسر أراضي فحسب، بل تفقد أيضا القدرة على تثبيت خطوط صد طويلة الأمد في مواجهة التفوق العددي الروسي.
وعمّقت الخسائر البشرية هذا التآكل؛ إذ تشير التقديرات الأوكرانية الرسمية إلى ارتفاع عدد القتلى خلال أقل من عام من 10 آلاف إلى نحو 100 ألف قتيل، إضافة إلى مئات الآلاف من الجرحى.
وفي المقابل، ورغم أن الخسائر الروسية أعلى كثيرا؛ إذ تجاوزت وفق تقديرات غربية، مليون قتيل وجريح، فإن موسكو لا تزال قادرة على مواصلة الضغط الميداني، مستفيدة من عمقها البشري والاقتصادي.
وفي هذا التوقيت، جاءت الضغوط الأمريكية لتزيد المشهد تعقيدا، خاصة أن الخطة الأمريكية المكونة من 20 نقطة طُرحت بعد محادثات مطولة مع موسكو، وتضمنت تنازلات إقليمية واضحة مقابل ضمانات أمنية واقتصادية، وهو ما اعتبرته كييف تراجعا كبيرا عن مقترحات سابقة.
ورغم ذلك، لا تزال لدى زيلينسكي بعض أوراق الضغط، وتتمثل في الدعم الأوروبي السياسي والمالي الذي يعتبر ركيزة أساسية، في وقت تُقدّر فيه المؤسسات الدولية حاجة أوكرانيا إلى نحو 137 مليار يورو خلال عامي 2026 و2027 فقط.
وفي الوقت الحالي، يستخدم الرئيس الأوكراني ورقة الاستفتاء الشعبي لتوفير غطاء شرعي لأي تسوية محتملة، في محاولة للجمع بين الواقعية السياسية والقبول الداخلي.
عسكريا، ورغم التراجع، لم تفقد كييف قدرتها على إزعاج العمق الروسي، مع استمرار الهجمات بالطائرات المسيّرة وضرب أهداف عسكرية واقتصادية حساسة.
إذاً، فإن ما تبقى من أوراق الضغط قد لا يكون كافيا لقلب المعادلة، لكنه قد يسمح لكييف بالسعي إلى تسوية تُخفف الخسائر بدل الانزلاق نحو انهيار أوسع في حرب لم تعد تملك ترف استمرارها بلا أفق.
وقال مستشار مركز السياسات الخارجية الأوكراني إيفان يواس، إن "مع دخول الحرب عامها الرابع، يجري الترويج لفكرة تحقيق نجاحات وفق ما يسمى علم الحرب"، معبرا عن تشككه في دقة هذا الطرح.
وأضاف يواس في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن "البيانات الرسمية الصادرة عن القصر الروسي، بما فيها تلك التي تتحدث عن مكاسب ميدانية، تكشف نمطا متكررا؛ إذ تعلن موسكو السيطرة على مدينة ما، ثم بعد نحو أسبوعين يظهر الرئيس الروسي في تسجيل مصور من الموقع نفسه، في محاولة لتكريس هذا الادعاء أمام الرأي العام".
وأشار إلى أن "ما يجري في جوهره لا يتعدى كونه رد فعل إعلاميا موجها، ومحاولة لإظهار وجود ديناميكية على أرض المعركة، في حين أن الواقع الميداني مختلف تماما، حيث يسود جمود شبه كامل على خطوط التماس دون تحركات نوعية حقيقية".
وأضاف يواس، أن هذا الجمود دفع الحرب ضد أوكرانيا إلى التحول إلى حرب استنزاف طويلة الأمد.
وأوضح أن "هذا التحول جعل العامل الاقتصادي يلعب دورا متزايد الأهمية مع مرور الوقت، خاصة وأن تأثير الاقتصاد في المرحلة المقبلة قد يكون أكثر حسما من العمليات العسكرية المباشرة".

ولفت إلى وجود تقارير أوروبية تتناول التوقعات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي خلال السنوات القادمة، متسائلا في المقابل عن مستقبل الاقتصاد الروسي.
وبيّن يواس، أن "روسيا تواجه بالفعل أزمات اقتصادية متفاقمة، في مقدمتها العجز المتزايد في الميزانية، إلى جانب زيادات ضريبية مقررة هي الأولى منذ 10 سنوات، من المنتظر دخولها حيز التنفيذ مطلع يناير/كانون الثاني 2026، فضلًا عن تقديرات تتحدث عن ارتفاعات خطيرة محتملة في معدلات التضخم".
وأوضح أن "الاقتصاد الأوكراني يواجه تحديات واضحة، لكنه يحظى بدعم مستمر من الشركاء الدوليين، على عكس الاقتصاد الروسي الذي يفتقر إلى هذا النوع من الإسناد الخارجي؛ ما يجعله أكثر هشاشة على المدى المتوسط والطويل".
وتوقع يواس، أن "ساحة الاقتصاد قد تشهد تأثيرات أعمق وأكثر استمرارية من المواجهات المباشرة"، معتبرا أن هذا المسار يصب في مصلحة أوكرانيا، التي تمتلك فرصا أكبر للصمود والتعافي مقارنة بروسيا.
وفي السياق نفسه، أكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة موسكو الدكتور نزار بوش، أن "اعتراف السلطات الأوكرانية بانسحاب قواتها من إحدى البلدات في إقليم دونيتسك، بعد إخفاء هذا الانسحاب لأسابيع، يعكس تطورا ميدانيا بالغ الدلالة".
وقال بوش في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إن "هذا الاعتراف جاء في النهاية لتبرير الانسحاب وتفادي سقوط مزيد من القتلى في صفوف الجيش الأوكراني".
وأضاف أن "هذا التطور يمثل بداية واضحة لانهيار الجيش الأوكراني، بالتزامن مع عجزه عن التقدم أو تحرير أي شبر من الأراضي التي تسيطر عليها روسيا".
وأوضح بوش، أن "المعطيات الميدانية باتت تفرض نفسها بقوة على مسار المفاوضات، حيث يحدد الواقع العسكري سقف أي تسوية سياسية محتملة".
وأشار إلى أن "اللقاءات والمفاوضات الأخيرة، ومنها اجتماعات ميامي، لم تُسفر حتى الآن عن نتائج ملموسة أو معلومات مسرّبة حول ما تم التوصل إليه".
ولفت بوش، إلى أن "زيلينسكي فقد جانبا كبيرا من أوراق القوة، ولم يتبقَّ له سوى الدعم الأوروبي كعنصر ضغط أساسي".
وأضاف أن "ضعف القيادة الأوكرانية لا يقتصر على الميدان، بل يمتد إلى الداخل، في ظل تصاعد موجات الهجرة وتهرب أعداد كبيرة من الخدمة العسكرية، إلى جانب تردي الأوضاع على جبهات القتال".
وأوضح بوش، أن "أوكرانيا باتت تفتقر إلى عناصر قوة حقيقية يمكن توظيفها في المفاوضات أو في المواجهة"، محذرا من أن العام المقبل قد يكون كارثيا على زيلينسكي والجيش الأوكراني إذا لم يتم التوصل إلى سلام عبر مفاوضات جدية تنهي هذا الصراع.