في مشهد غير مألوف يكشف عن عمق التباينات داخل الإدارة الأمريكية، تفجرت أزمة صامتة بين الرئيس دونالد ترامب ووزير دفاعه بيت هيغسيث، إثر قرار مفاجئ للأخير بوقف شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا دون إخطار مسبق للبيت الأبيض.
وكشفت شبكة CNN أن هيغسيث اتخذ قرار تعليق الشحنات خلال الأسبوع الماضي دون التنسيق مع البيت الأبيض، وهي خطوة أثارت قلقًا واسعًا داخل الإدارة، ودعت مسؤولين إلى التساؤل عن خلفيات القرار وأبعاده السياسية.
وأكدت مصادر مطلعة أن القرار لم يُعرض على الرئيس ترامب، الذي أبدى انزعاجه علنًا خلال اجتماع حكومي، قائلاً: "لا أعرف، لماذا لم تخبروني أنتم؟".
ويرى مراقبون أن هذه الواقعة تُعد تكرارًا لسيناريو مشابه وقع في فبراير الماضي، عندما أوقف هيغسيث شحنات مماثلة قبل أن يتراجع عنها لاحقًا تحت ضغط داخلي.
وهذه المرة، تدخل ترامب سريعًا وأصدر الأوامر بإعادة إرسال الذخائر، وفي مقدمتها صواريخ باتريوت الموجودة بالفعل في بولندا، بحسب مسؤول كبير في الإدارة.
وفي تطور لافت، لم يكن مبعوث ترامب إلى أوكرانيا، الجنرال المتقاعد كيث كيلوج، ولا وزير الخارجية ماركو روبيو على علم مسبق بالقرار، وتلقيا المعلومات من وسائل الإعلام، ما يعكس حجم الفجوة في التنسيق داخل دوائر صنع القرار.
وأشارت المصادر إلى أن غياب التنسيق يعود جزئيًا إلى ضعف البنية المحيطة بالرئيس، في ظل غياب رئيس أركان فعّال أو شبكة مستشارين موثوقين، مما يجعل بعض القرارات الكبرى تُتخذ أحيانًا بمعزل عن البيت الأبيض.
وفي محاولة لاحتواء الموقف، أصدرت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، بيانًا أكدت فيه أن البنتاغون أجرى مراجعة داخلية لضمان توافق الدعم مع مصالح الولايات المتحدة، مشيرة إلى أن الرئيس يثق بوزير دفاعه، لكنه اتخذ قراره بمواصلة تسليح أوكرانيا بأسلحة دفاعية "لوقف أعمال القتل في الحرب الوحشية"، وفق تعبيرها.
ورغم إعلان استئناف الشحنات ليلاً، فإن الحادثة تركت أثرًا عميقًا على صورة الانسجام داخل الإدارة الأمريكية، وأعادت طرح تساؤلات حول من يملك القرار في واشنطن، في لحظة حرجة تتصاعد فيها حدة الحرب في أوكرانيا.
وقف النزيف المالي
يرى الخبراء أن الانقسام داخل الإدارة الأمريكية بشأن استمرار الدعم العسكري لأوكرانيا يعكس صراعًا متزايدًا بين البيت الأبيض والبنتاغون، حيث يسعى الرئيس ترامب إلى تقليص هذا الدعم للحد من النزيف المالي، في حين تواصل مؤسسات "الدولة العميقة" الدفع باتجاه إطالة أمد الحرب، مدفوعة بمصالح لوبيات السلاح والطاقة.
وأضاف الخبراء، في تصريحات لـ "إرم نيوز"، أن واشنطن باتت عاجزة عن تلبية متطلبات عدة جبهات في وقت واحد، وسط تزايد المخاوف من صراع محتمل مع إيران وتصاعد التوترات في الشرق الأوسط.
ويرى محللون أن البنتاغون يميل إلى الاستمرار في تزويد أوكرانيا بأسلحة متقدمة، بينما يعتبر البيت الأبيض أن الحرب تحولت إلى عبء داخلي واقتصادي، مما يعكس تصاعد التناقضات بين مراكز اتخاذ القرار في الولايات المتحدة.
خسائر ضخمة وصفقات بديلة
في هذا السياق، قال نزار بوش، أستاذ العلوم السياسية بجامعة موسكو، إن الولايات المتحدة تكبّدت خسائر كبيرة في الحرب الأوكرانية، بعدما قدّمت ما بين 300 إلى 500 مليار دولار من الدعم العسكري دون تحقيق مكاسب حقيقية.
وأكد بوش، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن الرئيس ترامب سعى منذ توليه المنصب إلى وقف هذا النزيف المالي، عبر تقليص المساعدات أو تعويضها من خلال صفقات اقتصادية، خصوصًا في مجالات مثل المعادن النادرة.
وأضاف أن الأحاديث المتداولة بشأن إصدار ترامب الأوامر بوقف تسليح أوكرانيا ليست سوى مناورات سياسية تهدف إلى إيصال رسالة لموسكو باقتراب تراجع واشنطن، تمهيدًا للدخول في مفاوضات.
وشدد على أن روسيا تدرك جيدًا أن هذه التصريحات لا تعكس تحولًا جوهريًا في الموقف الأمريكي، بل تُعد رسائل استهلاكية موجهة للاستهلاك الداخلي والدولي.
وأشار بوش إلى أن الانقسام داخل واشنطن بين البيت الأبيض والبنتاغون يكشف عن حجم الصراع داخل الدولة العميقة، حيث تلعب لوبيات السلاح والنفط دورًا محوريًا في رسم السياسات الخارجية.
وتابع: "ترامب لا يملك صلاحيات مطلقة لتغيير مسار الحرب بسبب تغلغل هذه القوى داخل مؤسسات الدولة"، مؤكدًا أن بعض التيارات داخل أمريكا لا تزال تدفع باتجاه تصعيد الصراع، حتى عبر تزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى تهدد العمق الروسي مباشرة.
حرب وكالة واستنزاف متعدد الجبهات
من جانبه، قال سمير أيوب، الخبير في الشؤون الروسية، إن الدولة العميقة في أمريكا لا تزال متمسكة باستمرار الدعم العسكري لأوكرانيا، على اعتبار أن الحرب تُخاض بالوكالة عن حلف الناتو.
وأضاف في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن الانقسام داخل واشنطن بات واضحًا، حيث تسعى أطراف لتكثيف الدعم العسكري، بما في ذلك صواريخ يصل مداها إلى 500 كيلومتر، بينما ترى أطراف أخرى أن أوكرانيا أصبحت عبئًا اقتصاديًا وعسكريًا على الولايات المتحدة.
وأكد أيوب أن فشل ترامب في وقف الحرب رغم وعوده الانتخابية يعكس حجم الضغوط المفروضة عليه من الداخل الأمريكي وكذلك من الدول الأوروبية، مشيرًا إلى أن الصراع تحوّل من كونه جزءًا من السياسة الخارجية إلى أزمة داخلية تلامس جوهر القرار الأمريكي.
واعتبر أن الولايات المتحدة بدأت تعيد ترتيب أولوياتها، في ظل انخراطها المتزايد في دعم إسرائيل بحرب غزة، وتزايد احتمالات الصدام مع إيران.
ولفت إلى أن صمود روسيا ميدانيًا أضعف من الخطاب الغربي، وكشف عن حدود القدرة الأمريكية على إدارة أكثر من جبهة في وقت واحد، وأشار إلى أن قرار تجميد بعض شحنات الأسلحة دون الرجوع إلى الرئيس ترامب يعكس تضارب المصالح داخل مراكز القرار، ويؤكد أن واشنطن لم تعد قادرة على تلبية متطلبات أوكرانيا وإسرائيل في آنٍ واحد.