قال خبراء إن قرار القضاء الفرنسي بإلغاء مذكرة التوقيف بحق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد يعكس تعقيدات قانونية وسياسية متشابكة، تتعلق بمبدأ الحصانة والسيادة من جهة، والمساءلة عن الجرائم الدولية من جهة أخرى.
وفي قرار تاريخي ومثير للجدل، ألغت محكمة التمييز الفرنسية، أعلى هيئة قضائية في البلاد، مذكرة التوقيف الصادرة في نوفمبر 2023 بحق الأسد.
وكانت مذكرة التوقيف تتهم الأسد بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، على خلفية الهجمات الكيميائية التي وقعت العام 2013 في الغوطة ومناطق أخرى قرب دمشق، وأسفرت عن مقتل أكثر من ألف شخص، وإصابة المئات بغاز السارين السام.
وبينما استند القرار القضائي إلى مبدأ الحصانة المطلقة لرؤساء الدول أثناء توليهم مناصبهم، إلا أن المحكمة فتحت الباب أمام إمكانية إصدار مذكرات توقيف جديدة بحق الأسد بعد إطاحته في ديسمبر 2024 وفراره إلى روسيا، مؤكدة استمرار التحقيقات الجارية في القضية.
ويرى فابريس بالانش، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة "ليون 2" والمتخصص في الشأن السوري، أن القرار القضائي يعكس ارتباكًا فرنسيًا وأوروبيًا في التعامل مع الملف السوري منذ بداياته.
وأضاف بالانش لـ"إرم نيوز": "في الوقت الذي تسعى فيه باريس إلى الدفاع عن حقوق الإنسان وملاحقة مرتكبي الجرائم، فإنها تصطدم دومًا بواقع الحصانات الدبلوماسية والمصالح الجيوسياسية، وهو ما يُظهر مفارقة خطيرة في تطبيق العدالة الدولية".
وتابع أنه "من الناحية القانونية، القرار منسجم مع الأعراف الدولية بشأن الحصانة، لكن من الناحية السياسية، يُفهم على أنه رسالة ضمنية بالتراجع عن المواقف السابقة تجاه النظام السوري، خاصة في ظل التحولات الإقليمية التي أعادت بعض العواصم العربية للتطبيع مع دمشق".
واعتبر الباحث أن "القرار قد يشكل سابقة قانونية، لكنه أيضًا انتكاسة أخلاقية للضحايا والمنظمات الحقوقية، الذين رأوا في المذكرة إشارة أمل لمحاسبة رموز النظام السوري".
بدوره، قال توماس بييريه، الباحث السياسي الفرنسي في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، وأستاذ سابق في جامعة إدنبرة، إن القرار يُظهر التوتر الدائم بين القانون الدولي والعدالة السياسية.
وأوضح بييريه لـ"إرم نيوز" أنه "من وجهة نظر قانونية، كان من الصعب على فرنسا تجاوز مبدأ الحصانة، خاصة في غياب تفويض دولي من مجلس الأمن أو اختصاص مباشر للمحكمة الجنائية الدولية".
واستطرد: "لكن هذه القيود لا تلغي دلالات القرار الرمزية، والتي قد تُفهم باعتبارها تراجعًا عن التزامات فرنسا الأخلاقية تجاه ضحايا الحرب في سوريا".
وأضاف: "المفارقة أن القضاء الفرنسي اعترف بأن الجرائم المرتكبة كانت خطيرة ومنهجية، لكنه امتنع عن المضي قدمًا في الملاحقة القضائية بسبب الصفة الرسمية للمتهم حينها، وكأن المنصب بحد ذاته حصن من المحاسبة".
وأشار إلى أن الأثر الأهم لهذا القرار سيكون على المستوى الدولي، إذ "سيسهم في إعادة تعريف حدود العدالة الدولية خارج المؤسسات الأممية، ويفرض نقاشًا حول ضرورة إصلاح مفهوم الحصانة في حالات الجرائم الجماعية".
واعتبر بييريه أن قرار القضاء الفرنسي بإلغاء مذكرة التوقيف بحق الأسد يعكس "صدامًا متكررًا بين مبادئ العدالة ومصالح الدول".
ورأى أنه "يفتح الباب لنقاش أوسع حول قدرة الأنظمة القضائية الوطنية على محاكمة قادة دول سابقين في غياب إجماع دولي، خاصة في ظل الجمود بمجلس الأمن وغياب اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في الحالة السورية".