اليونيفل: إطلاق نار من رشاشات إسرائيلية وانفجار قنبلة قرب دورية لقواتنا جنوبي لبنان
تخضع أوروبا لامتحان مزمن، منذ بدء الحرب الأوكرانية، فكل تحليق أو اعتراض أو انتهاك لمجالها الجوي يتحول إلى اختبار للصبر ولمدى قدرة "المتنافسين" على ضبط النفس، والحيلولة دون وقوع خطأ قاتل قد يقود لمواجهة شاملة.
ورغم الهدوء الذي حظيت به القارة العجوز طوال العقود الفائتة، غير أن الاحتكاكات شبه اليومية بين روسيا ودول الناتو تكشف هشاشة آليات ضبط الأمن، ليصبح كل تحرك روسي تهديدا محتملا.
وفي ظل هذه الهشاشة، ليس صدفة أن تتزامن، في لحظة واحدة تقريبا، ثلاث وقائع عسكرية تمتد من بحر البلطيق إلى تخوم القطب الشمالي، إذ نفذت قاذفات روسية، ذات قدرات نووية، طلعات جوية فوق بحري النرويج وبارنتس، فيما اعترضت بولندا طائرة روسية فوق بحر البلطيق، وأبلغت عن انتهاك روسيا البيضاء، حليفة موسكو، مجالها الجوي.
ويشير خبراء إلى أن هذه الأحداث، وإن بدت منفصلة، غير أن ما يجمعها هو أنها تتخطى حدود "الأنشطة العسكرية الروتينية"، لتعكس واقعا مضطربا يختزل تحولات النظام الأمني الأوروبي من زمن الحرب الباردة "المستقرة نسبيا"، إلى حالة رمادية حيث الصدام المباشر متوقع في أي لحظة.
ويلاحظ الخبراء أن تكتيكات موسكو تتمثل في محاولة توزيع "الضغط" على مسارح وجبهات متعددة تمتد على طول حدودها مع الناتو، وهو ما يجعل الرد العسكري للخصم معقدا ومشوشا، علما أن طول حدود دول الناتو مع روسيا يبلغ نحو 2500 كم، فضلا عن الحدود البحرية.
ولا تخفي "القارة العجوز" عجزها عن احتواء الأنشطة العسكرية الروسية، وشرعت في البحث عن وضع قواعد وضوابط بينها مشروع لإنشاء "جدار ضد المسيرات"، غير أن الجهود الأوروبية لم تثمر عن شيء ملموس، حسب خبراء.
ووفقا لبيانات الناتو، فقد ارتفع عدد عمليات اعتراض الطائرات الروسية قرب حدود الحلف من متوسط يتراوح بين 250 و300 حالة سنويا خلال العقد الذي سبق حرب أوكرانيا، إلى ما يقارب 570 عملية اعتراض في عام 2022 وحده، قبل أن يستقر عند نحو 300 حالة سنويا في 2023 و2024.
ولا تؤشر هذه الأرقام إلى كثافة الاحتكاك الجوي فحسب، بل تكشف تحولا في طبيعة الاستفزازات، ففي سبتمبر الفائت أعلنت إستونيا أن ثلاث طائرات عسكرية روسية اخترقت مجالها الجوي لمدة 12 دقيقة، وهو زمن طويل بمعايير الطيران العسكري.
وسبق ذلك، بأسابيع، دخول أكثر من 20 طائرة مسيرة روسية المجال الجوي البولندي، ما دفع دول الجناح الشرقي للناتو إلى رفع مستويات الجاهزية الجوية إلى الحد الأقصى.
بولندا.. خط الدفاع الأول
وتعد بولندا، بوصفها خط الدفاع الأول عن حلف الناتو، من بين أكثر الدول تعرضا للاستفزازات الروسية، وهو ما ينطوي على رمزية سياسية وتاريخية وجغرافية، وفق خبراء.
ولم تكن بولندا، خلال حقبة الحرب الباردة، مجرد عضو في حلف وارسو، التابع للمعسكر الشرقي، بل كانت تتمتع بمكانة خاصة، فمن عاصمتها وارسو أعلن الحلف (الذي حمل اسمها) عام 1955، ومنها أدار الاتحاد السوفياتي السابق توازنه العسكري مع الغرب لعقود.
لكن الأدوار انقلبت إلى النقيض تماما، بعد انهيار الحلف الشرقي، مطلع تسعينيات القرن الماضي، لتنتقل بولندا إلى الضفة المعاكسة، إذ أصبحت خط تماس متقدم للناتو، في مفارقة تاريخية، ذات دلالة، كما يقول خبراء.
ويعرب خبراء عن اعتقادهم أن هذه "النقلة البولندية المذهلة" لم تُهضم بالكامل في وعي النخبة السياسية في روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، وهو ما يفسر، جزئيا، الاستهداف الروسي المتكرر لها.
ولا تختلف دلالة تحليق القاذفات الروسية "النووية" فوق بحري النرويج وبارنتس، عن الحالة البولندية، فقد كانت تلك المنطقة أحد أكثر مسارح الردع حساسية خلال الحرب الباردة، وجزءا من العمق الدفاعي للقدرات النووية السوفييتية.
ويرى خبراء أن الردع النووي خلال حقبة الحرب الباردة كان محكوما بقواعد واتفاقيات صارمة، وقنوات اتصال مستقرة، أما اليوم، فإن انسحاب روسيا والولايات المتحدة من معاهدات أساسية تتعلق بالحد من التسلح النووي، جعل كل نشاط من هذا النوع يحمل مخاطر عسكرية ورسائل سياسية.
الاستعراض النووي
ويلفت الخبراء إلى نقطة يرونها هامة، تتمثل في خطورة "تطبيع الاستعراض النووي"، فحين تصبح القاذفات ذات القدرات النووية مألوفا، وجزءا من المشهد اليومي، تتقوض المسافة النفسية والسياسية حيال احتمال استخدام هذا السلاح المدمر.
ويستدرك الخبراء بأن روسيا تدرس أفعالها قرب حدود الناتو بتأن، وحذر، بغية تحسين شروط التفاوض بشأن التسوية المرتقبة للملف الأوكراني.
وتسعى موسكو، كذلك، إلى تكثيف أنشطتها العسكرية على مقربة من الناتو، فتراكم وتكرار هذه الأنشطة المحدودة ومنخفضة الحدة، تشكل مصدر ازعاج وإرباك للخصم وتخلق لديه شعورا دائما بالتهديد، مع حرص الكرملين على ألا يصل مناوراتها إلى عتبة الرد العسكري التقليدي.
لكن كل ذلك لا يلغي، بحسب خبراء، احتمال وقوع أخطاء "قاتلة" قد تكون كلفتها بشرية، وعندئذ، فإن المواجهة تكون محتومة، خصوصا وأن إدارة هذه الاحتكاكات لم تعد محصورة في أعلى الهرم القيادي، بل تمر عبر مستويات ميدانية متعددة، من الطيارين إلى ضباط المناوبة، إلى مسؤولي غرف العمليات، وكل مستوى إضافي يزيد احتمالات الخطأ.
ويحذر الخبراء من أن الخطر لا يكمن في قرار مدروس بالتصعيد وإعلان الحرب، بل في واقعة صغيرة تقع في توقيت خاطئ، وفي سياق سياسي متوتر ومشحون...قد يفرض على القادة "خيارات كارثية" لم يخططوا لها.
وما يعزز مثل هذا الاحتمال، هو أن تاريخ أوروبا شهد تجارب مريرة جراء أخطاء في التقدير، كما حصل مع ألمانيا النازية التي قادتها الأخطاء والحسابات المتسرعة إلى الحرب العالمية الثانية ودمار القارة.