على مدار أكثر من عقد من الزمن، جذب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اهتمام الأمريكيين لرفضه انخراط الولايات المتحدة في الحروب، وخصوصًا ما أسماها بالحروب عديمة النهاية في الشرق الأوسط.
إلا أن ترامب في ولايته الرئاسية الثانية يبدو مختلفًا عن ترامب المرشح الانتخابي، فبعد أقل من شهرين على عودته للبيت الأبيض أطلق حملة عسكرية واسعة ضد الحوثيين في اليمن، مع التأكيد على أن العمليات العسكرية الأمريكية هناك لن تنتهِ قبل إزالة التهديدات المحدقة بالملاحة الدولية في البحر الأحمر.
وبشكل متزامن تقريبًا، بدأ ترامب التصعيد الكلامي ضد إيران والتأكيد على أن كل الخيارات متاحة لمنعها من امتلاك سلاح نووي وللضغط عليها للقبول باتفاق نووي جديد قد يتطلب من إيران تقديم تنازلات حتى في قدراتها الصاروخية.
ومواقف ترامب التصعيدية الحالية ضد إيران تعكس امتلاكه لمقاربة مختلفة تمامًا للملف الإيراني بالمقارنة مع سلفيه باراك أوباما وجو بايدن – بل حتى بالمقارنة مع ولاية ترامب الأولى.
اعتبر ترامب في ولايته الرئاسية الأولى أن الاتفاق النووي الذي وقعه سلفه باراك أوباما في شهر يوليو/ تموز 2015 قدم مكاسب غير مبررة لإيران دون أن يقدم حلًا جذريًا للتهديد النووي الإيراني، ودون التطرق للسلوك الإيراني التقويضي في المنطقة، وترامب هنا ليس بعيدًا بالكامل عن الواقع.
فإدارة أوباما نظرت إلى الاتفاق النووي على أنه مجرد حل مؤقت. فهو يجمد المشروع النووي الإيراني لمدة 15 عامًا فقط تلتزم إيران خلالها بعدم تخصيب اليورانيوم لمستوى أعلى من 3.6%، وعدم امتلاك أكثر من 300 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب لهذا المستوى، وعدم إجراء أي أبحاث أو تجارب لتطوير أجهزة الطرد المركزي (المستخدمة في عمليات التخصيب)، أو إجراء أي أبحاث نووية عسكرية، وذلك مقابل رفع كامل العقوبات الاقتصادية والسياسية عن إيران، ومع انتهاء فترة تطبيق الاتفاق – في مطلع 2031 – تتحرر إيران من كل القيود الكمية والنوعية على الأبحاث النووية.
ودافع أوباما لتوقيع الاتفاق بهذا الشكل – بحسب ما قال في مقابلات عدة – هو أن البرنامج النووي الإيراني كان يتقدم بشكل خطير، وباتت إيران على بعد عام واحد من امتلاك السلاح النووي.
فكان الاتفاق النووي فرصة لتجميد هذا الخطر الإيراني لفترة 15 عامًا تستطيع خلالها الولايات المتحدة التعافي من تأثيرات حربي العراق وأفغانستان والتركيز على مواجهة الصين وتطوير الخيارات العسكرية اللازمة للتعامل مع الخطر النووي الإيراني إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك.
إلا أن منتقدي أوباما رأوا أنه وقع الاتفاق لرغبته في فك الارتباط مع الشرق الأوسط مهما كلف الأمر ليتمكن من نقل الثقل الأمريكي نحو جنوب شرق آسيا. وفي سبيل ذلك تجاهل أوباما اعتبارات جوهرية عدة منها أن الصين كانت تزيد من حضورها في الشرق الأوسط نفسه، وكذلك أن إيران هي أحد أهم حلفاء الصين، وأن تحررها من العقوبات الأمريكية يقويها ويقوي الصين التي باتت تستأثر حاليًا بـ90% من صادرات النفط الإيرانية.
وفي ولاية ترامب الأولى، تنامت الانتقادات للاتفاق النووي الإيراني بعدما ظهر أنه مكن إيران من التمدد في الشرق الأوسط، وأن الاتفاق لم يعالج الأنشطة النووية العسكرية التي قامت بها إيران في السابق (ضمن ما يعرف بمشروع "عماد") والتي احتفظت إيران بأرشيف سري كامل لها. كما لم يوفر الاتفاق آلية لإجبار إيران على تقديم معلومات حول المواقع النووية السرية التي رفضت السماح "للوكالة الدولية للطاقة الذرية" (IAEA) بتفتيشها.
وهذه التفاصيل عزت الشكوك بأن إيران تستطيع – سواء عند انتهاء فترة الاتفاق النووي أم حتى قبل ذلك – إطلاق برنامج نووي عسكري متكامل. بسبب هذه العوامل – وبتشجيع كبير من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو – انسحب دونالد ترامب من الاتفاق النووي في شهر مايو/ أيار 2018.
وأعاد فرض العقوبات الاقتصادية السابقة على إيران مع تشديدها ليتبلور ما بات يعرف باستراتيجية الضغط الأقصى التي قلصت صادرات النفط الإيراني لأدنى مستوياتها في التاريخ. وبالتزامن مع تشديد العقوبات، رفع ترامب، في ولايته الأولى، سقف مطالبه من إيران لتشمل التوصل لاتفاق نووي جديد صارم ودائم مع التخلي عن الأنشطة التقويضية في الشرق الأوسط. إلا أن إيران قاومت ضغوط ترامب، ومضت بعيدًا في أنشطتها النووية لتصبح على بعد أسابيع من امتلاك السلاح النووي.
ومرحلة ولاية بايدن شهدت تخفيضًا للضغوط الأمريكية على إيران بسبب حاجة الولايات المتحدة لتدفق النفط الإيراني لتخفيف حدة أزمة الطاقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. إلا أن الملف النووي الإيراني نفسه بقي يراوح مكانه – دون إنجاز دبلوماسي جوهري.
وخلال ولاية بايدن، راكمت إيران قدراتها بشكل كمي – من حيث حجم المخزون من اليورانيوم المخصب (عند 60%) – ولكن دون القيام بخرق نوعي للخطوط الحمراء القليلة المتبقية في المجال النووي.
وآخر تقديرات "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، في شهر فبراير/ شباط الماضي، تقول إن مخزون إيران من اليورانيوم عالي التخصيب بات يكفي لبناء أكثر من 6 رؤوس نووية حربية، وذلك بالمقارنة مع 3 فقط في أغسطس/ آب 2024. كما ارتفع إجمالي مخزون إيران من اليورانيوم المخصب (من مختلف المستويات) منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 بنسبة 25%.
وبعد عودته للبيت الأبيض، أعاد ترامب تطبيق استراتيجية الضغط الأقصى. إلا أن إدارة ترامب تدرك أن الملف النووي الإيراني بات أخطر من أي مرحلة سابقة، وأن تكتيك المماطلة الإيراني في المفاوضات يمكن أن يسمح لإيران ببناء سلاح نووي إذا ما توفرت لها نافذة فرصة تكون فيها الولايات المتحدة منشغلة – كما فعلت كوريا الشمالية مع إدارة جورج بوش الابن المنشغلة في حربي العراق وأفغانستان.
كما تدرك الإدارة الأمريكية أن المفاوضات لا يمكن أن تضمن تخلي إيران عن سلوكها التقويضي في الشرق الأوسط، والذي يعتمد بشكل حيوي على دعم الميليشيات المسلحة عبر الشرق الأوسط.
ولهذا لا بد من البحث عن أدوات ضغط جديدة لمعالجة الأوجه المعقدة للملف الإيراني. وهذه المرة تبدو الإدارة الأمريكية مستعدة لاستخدام طيف الأدوات العسكرية المتاحة لها.
تتحرك الإدارة الأمريكية عسكريًا على مسارات مختلفة ضد إيران، فمن ناحية أولى، عززت القوات الأمريكية من انتشارها في سوريا لتتجاوز لأول مرة منذ 2015 الصحراء السورية، وتصل مؤخرًا إلى شرق مدينة دمشق.
والانتشار الأمريكي هناك ينطلق من اعتبارات عدة بينها ضمان عدم استفادة إيران من الفراغ الأمني في سوريا. وفي لبنان تتابع الإدارة الأمريكية الضغط على الحكومة اللبنانية لنزع سلاح "حزب الله" وتطبيق القرارات الأممية ذات الصلة، وبهذا تضمن الولايات المتحدة قطع طريق إيران إلى البحر المتوسط.
ومن المحتمل أن تثير الولايات المتحدة قريبًا ملف الميليشيات العراقية التي تعمل خارج المؤسسات الرسمية العراقية. وفي اليمن بدأت الولايات المتحدة، في منتصف مارس/ آذار، حملة جوية واسعة ضد الحوثيين مع التعهد بأن الحملة لن تتوقف حتى انتهاء التهديدات المحيطة بالملاحة التجارية. ولا يخفى أن هذه المسارات تمثل عملية تقليم أظافر إيران في المنطقة – وقد تصل قريبًا لمرحلة نزع هذه الأظافر بالكامل.
ومن ناحية ثانية، تحشد الولايات المتحدة قواتها في المنطقة بشكل يستهدف إيران بشكل واضح. ففي 21 مارس/ آذار، كشفت وسائل إعلام أمريكية أن وزير الدفاع بيت هغسيث مدد مهمة مجموعة حاملة الطائرات "هاري ترومان" في الشرق الأوسط لشهر إضافي مع الإيعاز لمجموعة حاملة الطائرات "كارل فينسون" للتوجه للمنطقة.
وانتشار مجموعتي حاملات طائرات أمريكية في الشرق الأوسط منذ انسحاب القوات الأمريكية من العراق في 2011 هو أمر نادر الحدوث، ومنذ ولاية ترامب الأولى، بات من المألوف أن تمضي أشهر عدة دون أي وجود لحاملات الطائرات الأمريكية في الشرق الأوسط.
إلا أن التحشيد العسكري الأكثر خطورة هو ذاك الذي لم تعلنه الولايات المتحدة رسميًا. فمنذ أواخر مارس/ آذار ومصادر الاستخبارات المفتوحة "OSINT"، مثل مواقع تتبع حركة الطائرات وصور الأقمار الصناعية التجارية، تظهر حركة جوية استثنائية عبر المحيط الهادئ إلى قاعدة دييغو غارسيا الاستراتيجية في المحيط الهندي، والتي تبعد حوالي 5,000 كيلومتر عن إيران.
وفي الثاني من أبريل/ نيسان باتت صور الأقمار الصناعية تظهر بوضوح انتشار ست قاذفات استراتيجية شبحية من طراز "B-2" في هذه القاعدة وذلك بالإضافة إلى 11 طائرة على الأقل من طراز "KC-135" المخصصة لمهام التزويد بالوقود جوًا.
وقاعدة دييغو غارسيا طالما أدت دورًا محوريًا في العمليات الجوية الأمريكية في الشرق الأوسط، خصوصًا خلال حربي العراق وأفغانستان.
حرص الولايات المتحدة على ترك هذه القدرات الجوية مكشوفة للأقمار الصناعية التجارية هو رسالة واضحة لإيران.
فهذه الطائرات تتميز بقدرة الواحدة منها على حمل قنبلتين من طراز "GBU-57A/B MOP" التي تزن الواحدة منها 14 طنًا وهي أكبر قنبلة غير نووية في العالم والوحيدة القادرة على اختراق المواقع النووية الإيرانية المحصنة تحت الأرض.
والتسريبات المتوفرة تشير إلى أن هذه الطائرات ستبقى في دييغو غارسيا حتى شهر مايو/ أيار على الأقل. ستبقى هذه القاذفات في المنطقة بالتزامن مع انتشار حاملتي طائرات والسفن الصاروخية المرافقة لها في المنطقة خلال هذا الشهر على الأقل.
وهذا ما يوفر لترامب أوراق الضغط التي يحتاجها لإقناع إيران بالتوصل بشكل سريع لاتفاق نووي جديد بحسب الرسالة التي وجهها لها الشهر الماضي، والتي تطالب بالتوصل لاتفاق جديد خلال شهرين اثنين فقط.
وإيران – بحسب آخر التسريبات مساء 3 أبريل/ نيسان – وافقت على المفاوضات غير المباشرة، ودون شروط مسبقة من جانبها. فإيران رفضت في السابق القبول باتفاق نووي جديد، أو تمديد الاتفاق السابق، واشترطت، خصوصًا خلال ولاية بايدن، رفع "الحرس الثوري الإيراني" من قوائم العقوبات الغربية، وتحويل الاتفاق النووي إلى معاهدة يقرها الكونغرس. وهذا ما لم يحصل بطبيعة الحال.
والموقف الإيراني الأخير مهم للغاية، ولكنه قد لا يكون كافيًا لتحقيق الخرق النوعي المطلوب لإنهاء الخلافات حول الملف النووي الإيراني. خصوصًا مع رفع إدارة ترامب لسقف التنازلات المطلوبة من الجانب الإيراني.
وما يجب توضيحه هنا هو أن شروط إدارة ترامب لا تنطلق من المخاوف المحيطة بالملف النووي الإيراني فحسب، بل من وجود اعتقاد واسع بأن إيران اليوم، وخصوصًا بعد سقوط النظام السوري وهزيمة "حزب الله"، باتت ضعيفة بشكل غير مسبوق.
وهذا ما يسمح بمعالجة جذرية للملف النووي الإيراني – وليس عبر تسوية إشكالية مؤقتة كما فعلت إدارة أوباما. فهل ستتجرع إيران السم – كما فعل الخميني عندما قبل إنهاء الحرب مع العراق في 1988 – وتتنازل للولايات المتحدة أم سيفضل خامنئي ترك هذه المهمة لخليفته؟