مع اقتراب الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب من إتمام عامها الأول، تتضح ملامح شبكة النفوذ التي تُشكّل السياسة الخارجية الأمريكية، وتكشف عن إدارة أقل تبدلًا في الوجوه، وأكثر تركيزًا للسلطة، مقارنة بالولاية الأولى.
عندما أكمل ترامب أول 100 يوم من ولايته الثانية، بدت ملامح السياسة الخارجية محكومة بمجموعة صغيرة من الشخصيات المقربة، بعضها يتمتع بنفوذ رسمي، وبعضها الآخر يمارس تأثيره من خارج الأطر التقليدية.
وبعد مرور قرابة عام، لم تتغير هذه الصورة كثيرًا، بل تعزز نفوذ بعض الأسماء، في ظل استقرار غير معتاد في المناصب العليا، وهو أمر نادر في تاريخ إدارة ترامب.
برز الملياردير ستيف ويتكوف، المطور العقاري والصديق الشخصي المقرب لترامب، كأحد أهم أدوات الرئيس الدبلوماسية، رغم افتقاره لأي خبرة سابقة في العمل الدبلوماسي.
وقد كُلّف ويتكوف بملفات بالغة الحساسية، من الحرب في غزة إلى النزاع الروسي الأوكراني.
حقق ويتكوف نجاحات محدودة، أبرزها المساهمة في إطلاق سراح مواطن أمريكي محتجز في روسيا، والمشاركة في التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة بالتعاون مع جاريد كوشنر؛ إلا أن إخفاقاته كانت أكثر وضوحًا في الملف الأوكراني، حيث فشلت قمتا ألاسكا وبودابست مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تحقيق أي اختراق.
كما أثارت قلة خبرته سلسلة من الجدل، من سوء تقدير المواقف الروسية، إلى تسريب محادثات حساسة أظهرت ارتباكًا في إدارة التفاوض.
ورغم ذلك، لا يزال ويتكوف في صلب الجهود الدبلوماسية، ما يعكس اعتماد ترامب على الولاء الشخصي أكثر من الكفاءة المؤسسية.
بعد بداية بدت فيها وزارة الخارجية مهمشة، عاد ماركو روبيو ليصبح أحد أكثر الشخصيات نفوذًا في إدارة ترامب. يجمع روبيو بين مناصب غير مسبوقة؛ وزير الخارجية، ومستشار الأمن القومي، وقائم بأعمال عدة مؤسسات سيادية، في تكرار لنموذج هنري كيسنجر.
برز تأثير روبيو في السياسة الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية، لا سيما في العمليات العسكرية المرتبطة بفنزويلا، حيث يُنظر إليه باعتباره مهندس استراتيجية الضغط وتغيير النظام.
كما لعب دورًا محوريًا في موازنة اندفاع ترامب وويتكوف تجاه روسيا، وساهم في تعديل خطة السلام الأوكرانية لتكون أقل انحيازًا لموسكو وأكثر قابلية للتسويق أوروبيًا.
يعكس نفوذ روبيو عودة جزئية للمؤسسة الدبلوماسية التقليدية، ولكن ضمن إطار "أمريكا أولًا" الصارم.
من موقعه كوزير للدفاع، قاد بيت هيغسيث تحولات جذرية داخل البنتاغون، ركزت على إعادة تعريف الجيش الأمريكي كأداة قتالية صِرفة، مع تقليص دور الإعلام، وإلغاء برامج التنوع، وفرض سياسات اجتماعية مثيرة للجدل.
لكن نفوذ هيغسيث تجلّى أكثر في الأزمات، لا الإنجازات؛ فقد تورط في فضيحة تسريب خطط عسكرية عبر تطبيق مراسلة خاص، كما واجه اتهامات قانونية وأخلاقية بسبب عمليات عسكرية في الكاريبي، واتهامات بارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي.
ورغم تراجع الثقة به داخل الكونغرس وحتى داخل الإدارة، لا يزال هيغسيث مدعومًا من ترامب، في تجسيد واضح لتقديم الولاء السياسي على الخبرة.
برز نائب الرئيس جيه دي فانس كأحد أكثر الأصوات حدة في تبني رؤية انعزالية وعدائية تجاه أوروبا والهجرة. انتقد علنًا القيادة الأوكرانية، وهاجم الحلفاء الأوروبيين في مؤتمرات دولية، وتدخل بشكل مباشر في السياسات الداخلية لدول ديمقراطية غربية.
يمثل فانس النسخة الأوضح من سياسة "أمريكا أولًا" في بعدها الأيديولوجي: تقليص الالتزامات الخارجية، ورفض التعددية، وربط السياسة الخارجية بالصراعات الثقافية الداخلية.
من داخل البنتاغون، أصبح إلبريدج كولبي أحد أكثر المسؤولين تأثيرًا في توجيه العقيدة العسكرية الأمريكية؛ حيث دعا إلى تقليص الالتزامات في أوروبا والشرق الأوسط، والتركيز شبه الكامل على الصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
أثارت قراراته الأحادية، مثل وقف شحنات أسلحة لأوكرانيا، وسحب قوات من أوروبا الشرقية، غضب الكونغرس، وأدت إلى توترات مؤسسية غير مسبوقة، ما يعكس صراعًا متصاعدًا بين السلطة التنفيذية والرقابية.
رغم عدم توليه منصبًا دبلوماسيًا، كان لستيفن ميلر تأثير مباشر على علاقات الولايات المتحدة مع عشرات الدول من خلال سياساته المتشددة تجاه الهجرة واللاجئين.
كما دعم بقوة استخدام القوة العسكرية في أمريكا اللاتينية، وربط ملفات الأمن والهجرة والسيادة في إطار واحد صدامي.
عاد جاريد كوشنر إلى الواجهة دون منصب رسمي، لكنه شارك في أهم مفاوضات العام، من غزة إلى موسكو.
ورغم دوره، لا تزال مخاوف تضارب المصالح تطارده، في ظل علاقاته الاقتصادية الواسعة مع دول الخليج.
برز وزير الخزانة سكوت بيسنت كأحد أعمدة السياسة الخارجية، خصوصًا في الحروب التجارية والمفاوضات مع الصين.
ومع تزايد اعتماد ترامب على الأدوات الاقتصادية لتحقيق أهداف سياسية، يُتوقع أن يتعاظم نفوذ بيسنت في المرحلة المقبلة، وربما يصبح مهندس السياسة الاقتصادية الأمريكية بشقيها الداخلي والخارجي.
لعبت ميلانيا ترامب دورًا غير رسمي في الملف الأوكراني، خصوصًا قضية الأطفال المرحّلين، وظهرت كمصدر تشكيك داخلي في الرواية الروسية.
كما حافظت سوزي وايلز، رئيسة موظفي البيت الأبيض، على نفوذ هادئ لكنه حاسم، بوصفها المنسقة الفعلية لصنع القرار داخل الدائرة الضيقة للرئيس.
تكشف ولاية ترامب الثانية عن سياسة خارجية تُدار عبر شبكة ضيقة من الشخصيات، يغلب عليها الولاء الشخصي، وتُهمّش المؤسسات التقليدية؛ إنها إدارة تقوم على الصفقات، والمواجهات، وتفكيك التحالفات القديمة، في عالم يتجه بسرعة نحو منطق مناطق النفوذ وصراع القوى الكبرى.