يؤكد الخبراء والمتابعون للشأن الإسرائيلي أنّ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يسعى حاليا إلى إغلاق ملف لجنة التحقيق في أحداث السابع من أكتوبر بأخف الأضرار عليه وعلى حكومته الهشة، فيما تدفع المحكمة العليا نحو إقرار لجنة حقيقية مستقلة ذات صلاحيات واسعة، الأمر الذي قد يؤشر إلى صراع جديد بين "القضاة" وبين حكام تل أبيب.
ويمثل إنشاء لجنة تحقيق مستقلة وذات صلاحيات واسعة أحد المطالب الكبرى والأساسية لأهالي الرهائن والضحايا، وللمعارضة السياسية ولطيف واسع من الشارع الإسرائيلي الذي يود الاطلاع على مواطن الخلل في منظومة العمل الأمنية والاستخباراتية، وتحديد المسؤولية وتحميلها للمقصرين والذين عرّضوا أمن إسرائيل للخطر.
وعلى الطرف المقابل من هذا المطلب اختارت الحكومة تشكيل لجنة بصلاحيات محدودة للتحقيق في أحداث 7 أكتوبر، حيث من المقرر أن يرأس وزير العدل ياريف ليفين لجنة وزارية لتفويض اللجنة الحكومية المكلفة بالتحقيق.
كما ستكون اللجنة عبارة عن حكومة مصغرة حيث أنها ستضم كلا من وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزيرة المستوطنات والمهام الوطنية أوريت ستروك، ووزير التراث عميحاي إلياهو، إضافة إلى وزير الزراعة آفي ديختر، ووزيرة العلوم والتكنولوجيا غيلا غمليئيل، وزير شؤون الشتات عميحاي شيكلي، والوزير في وزارة المالية زئيف إلكين.
ويشير العدد الكبير للوزراء ضمن اللجنة الأمّ التّي ستحدد صلاحيات لجنة التحقيق، إلى الطابع الرسمي لمنظومة التحقيق والذي يُراد لنتائجه وتوصياته أن تبقى ضمن "هوامش المقبول" سياسيا وقضائيا وانتخابيا.
ووفق مصادر إعلامية إسرائيلية، فمن المقرر أن تُمنح اللجنة الوزارية الخاصة 45 يوما لتقديم توصياتها إلى الحكومة بشأن تفويض اللجنة، والذي سيتضمن مواضيع التحقيق والإطار الزمني ومواعيد تسليم التقرير النهائي.
وأثارت هذه الخطوة غضب المعارضة الإسرائيلية وأهالي الضحايا والرهائن من أحداث 7 أكتوبر، الذين يطالبون بتحقيق رسمي يحدد أوجه القصور ومواطن الإهمال، ويحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية والمهنية للمسؤولين عنها، ويدفعهم إلى الاستقالة وإلى التتبعات القضائية.
حيث أشارت نتائج استطلاعات الرأي في إسرائيل إلى أنّ غالبية المستجوبين يؤيدون تشكيل لجنة تحقيق رسمية في الهجوم، على خلاف ما قامت به حكومة نتنياهو.
وينظر الرأي العام الإسرائيلي بكثير من الريبة والتحفظ لتركيبة اللجنة الحكومية، باعتبار أنّ كافة الوزراء الأعضاء – باستثناء زئيف إلكين الوزير في وزارة المالية- كانوا في حكومة نتنياهو، وبالتالي فإنّهم يتقاسمون بدرجات مختلفة ومعينة أجزاء من المسؤولية عما حدث في 7 أكتوبر/ تشرين الأول من سنة 2023.
وتفرق المدونة القانونية الإسرائيلية بشكل واضح وصريح بين لجنة التحقيق الرسمية (لجنة الدولة State Commission of inquiry) وبين لجنة التحقيق الحكومية (لجنة وزارية غير رسمية Government/ Ministerial Commision).
حيث تعتبر لجنة التحقيق الرسمية أعلى هيئة تحقيق ويقع الاستعانة بها في القضايا الوطنية الكبرى، ويُمثل "قانون لجان التحقيق الإسرائيلي" الصادر في 1968 أساسها القانوني والتشريعي، ويُعين رئيسُ المحكمة العليا رئيسَ اللجنة وأعضاءها ) والذين يكونون عادة من القضاة)، وتتمتع بصلاحيات واسعة وملزمة قانونيا (استدعاء الشهود تحت القسم)، وباستقلالية كاملة وشبه قضائية عن الجهاز التنفيذي، كما انّ توصياتها تكون ذات ثقل سياسي واعتباري وأخلاقي، وتكون بمثابة الحُكم التاريخي والقضائي على الفاعلين السياسيين في مرحلة سياسية معينة.
أما لجنة التحقيق الحكومية فهي لجنة تابعة وخاضعة للسلطة التنفيذية، وتعمل بموجب "قانون الحكومة" لعام 2001 والذي يسمح للحكومة ولأحد وزرائها بإحداث اللجنة، وتُعين الحكومةُ رئيس اللجنة وأعضاءها وتحدد نطاق عملها وتفويضها، وهي ذات صلاحيات جدّ محدودة وتتطلب موافقة وزير العدل لتعزيزها، كما أنّ توصياتها غير ملزمة للحكومة التي تملك سلطة قبولها أو رفضها.
وفق تصورات الباحثين والمتابعين، فإنّ الفرق بين اللجنتين كبير جدّا، فالأولى عبارة عن لجنة تحقيق قضائية ذات استقلالية عن الحكومة وصلاحيات فوق السلطة التنفيذية، في حين أنّ الثانية هي عبارة عن لجنة تحقيق داخلي موسّع.
وبناء عليه، فإنّ اللجوء للخيار الثاني دون دراسة الأول، يصب في جهد حكومة نتنياهو لإغلاق ملف 7 أكتوبر 2023، بالحد الأدنى من الخسائر السياسية والقضائية ودون تقويض فرصه في الانتخابات القادمة.
ولكن يبدو أنّ مشروع الحكومة لـ"دفن" ملف أحداث 7 أكتوبر، دونه الكثير من العقبات، التي تضاف لمعارضة طيف واسع من الأحزاب السياسية وللرفض المطلق الذي أبدته عائلات الرهائن والضحايا، حيث انضمت المحكمة العليا – وهي أعلى هيئة قضائية في إسرائيل- لمسار التشكيك في مشروعية موقف الحكومة رفض تشكيل لجنة تحقيق رسمية.
حيث أمرت المحكمة العليا، أعلى هيئة قضائية بإسرائيل، حكومة بنيامين نتنياهو، بتقديم مبررات عدم تشكيل لجنة تحقيق رسمية بخصوص أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وأمهلت المحكمةُ الحكومةَ حتى 4 يناير/كانون الثاني 2026 لتقديم مبرراتها، وفق هيئة البث الرسمية.
تجدر الإشارة إلى أنّه في أكتوبر الماضي أمهلت المحكمة العليا حكومة نتنياهو شهرا، لإبلاغها بمصير تشكيل لجنة التحقيق الرسمية.
بدوره، أدان "مجلس أكتوبر"، الذي يمثل عائلات قتلى ومصابي 7 أكتوبر قرار الحكومة بشأن تشكيل الفريق الوزاري.
وقال المجلس في بيان: "بدلًا من النضال من أجل مستقبل دولة إسرائيل، تُحارب الحكومة العائلات الثكلى... إن الفريق الوزاري الذي يرأسه ليفين مشكل من أسماء "أشخاص كان يجب أن تُحقق معهم لجنة التحقيق الرسمية".
ويبدو أنّ إسرائيل ستعرف في قادم الأيام مكاسرة جديدة بين نتنياهو من جهة وبين المحكمة العليا من جهة ثانية، حيث تؤكد كافة التقديرات المتأتية من تل أبيب، أنّ حكومة بنيامين نتنياهو متمسكة بـ"لجنة التحقيق الحكومية" ويكاد يكون هذا الخيار محلّ إجماع واسع بين كافة أطرافها ومكوناتها.
وإزاء هذا الموقف الحكومي المتعنّت، ترصد القراءات التحليلية المتابعة للشأن الإسرائيلي 3 أسباب كبرى له.
السبب الأول: يكمن في تعدد التحقيقات العسكرية والأمنية لأحداث 7 أكتوبر 2023، وهي تحقيقات داخلية مسحت كافة المسائل الاستخباراتية وكشفت مواطن الخلل والقصور، وحددت قائمة المسؤولين عن الخلل، ومن المقرر أن تشهد الأسابيع القليلة القادمة (عقب استيفاء المرحلة الثانية والثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة) موجة استقالات لقيادات عسكرية وأمنية واستخباراتية كانت تشتغل في الجبهة الجنوبية.
في هذا المفصل، ترى الدوائر القريبة من حكومة نتنياهو أنّ الكثير مما ينتظره الرأي العام أنجز فعلا، ولا حاجة للجنة تحقيق رسمية، وهو تقدير تختلف معه عدّة أطراف إسرائيلية غير الرسمية والتي تعتبر أنّ هذه التحقيقات داخلية وحكومية ولم ولن تعلن نتائجها للجمهور، وأنّ قيمة التحقيق تكون من قيمة لجان التحقيق ومن صلاحياتها الواسعة ومن استقلاليتها الفعلي عن السلطة التنفيذية.
السبب الثاني: يتمثل في خشية بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته من النتائج المترتبة عن لجان التحقيق المستقلة، فقد أثبتت أعمال لجان التحقيق السابقة أنّ تداعياتها خطيرة على الحكومات القائمة.
حيث أدى تقرير لجنة "أغرانات لحرب أكتوبر 1973" إلى استقالة حكومة غولدا مائير وإقالة مسؤولية عسكريين كبار من بينهم رئيس الأركان حينها دافيد أليعازر.
أما لجنة "كاهان 1982" – حول مذبحة صبرا وشاتيلا، فقد أفضى تقريرها النهائي إلى استقالة وزير الدفاع أرييل شارون، وصولا إلى لجنة "فينوغراد لحرب 2006" والتي خلقت نتائجها مناخا عاما في إسرائيل دفع رئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزير الدفاع عامير بيرتيس، ورئيس الأركان دان حالوتس جميعا للاستقالة من مناصبهم، ومغادرة الحياة العامة، وهو ما يمثل كابوسا حقيقيا لنتنياهو الذي يعتبر تكرار سيناريو "فينو غراد" بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على مسيرته السياسية.
أما السبب الثالث: فهو خشية بنيامين نتنياهو من تأثير نتائج لجنة التحقيق المستقلة على حظوظه وحظوظ حزبه في الفوز بالانتخابات التشريعية القادمة في 2026، حيث يريد أن يخوض الانتخابات بمظهر "الرجل القوي" الذي جلب الأمن والاستقرار لإسرائيل، وطرد شبح "الإرهاب" عنها، ووضع اللبنات الأولى لشرق أوسط جديد في المنطقة وأعاد إحياء فكرة "إسرائيل الكبرى".
يخشى بنيامين نتيناهو كثيرا من انقلاب الموازين السياسية في الانتخابات القادمة في 2026، حيث تشير نتائج استطلاعات الرأي إلى وجود معارضة شعبية متصاعدة مع تفاقم قوّة أطراف يمينية من خارج الائتلاف الحاكم.
إذ تؤكد استطلاعات الرأي الإسرائيلية أنّ أكثر من 50% من المتوقع مشاركتهم في الانتخابات يرفضون ترشحه للانتخابات القادمة، حيث يحملونه مسؤولية الإخفاق الكبير في 7 أكتوبر 2023، ويحملونه أيضا مسؤولية فقدان حياة الكثير من الرهائن إبان الحملة العسكرية في غزة.
وتتجه الأنظار اليوم، إلى شخصيات يمينية قد تخلف نتنياهو في رئاسة الحكومة على غرار بيني غانتس ونفتالي بينيت، مع الإشارة إلى أنّ إمكانية خروجه من رئاسة الحكومة لا تعني أبدا أنّ حزب الليكود لن يكون قوة انتخابية وسياسية وبرلمانية وازنة في المشهد الانتخابي والسياسي القادم.