غداة انتخابه مستشارًا لألمانيا، سارع فريدريش ميرتس إلى القيام بالمهام الملقاة على عاتقه فورًا، إذ توجه إلى فرنسا ومنها إلى بولندا، في مؤشر على عمق التحديات التي تواجه حكومته الوليدة.
ويبدو أن المستشار الجديد، الذي يسعى إلى إعادة تفعيل دور ألمانيا على المستوى الأوروبي وفي العالم، لم يشأ أن يهدر وقتًا، فهو يدرك أن ثمة "ملفات ثقيلة وعاجلة على طاولة المستشارية" عليه أن ينجزها دون إبطاء.
تقول الصحافة الألمانية إن ميرتس السياسي والإعلامي، قليل الخبرة بالقيادة، ما يعني أن فوزه بالمستشارية، المنصب الأرفع في البلاد، جاء عبر سلم سياسي غير عادي، ذلك أنَّ ميرتس، لم يسبق له تولي أي مسؤولية قيادية، فهو لم يكن من قبل وزيرًا أو رئيس وزراء ولاية.
وميرتس، البالغ 69 عامًا، هو الأكبر سنًّا منذ المستشار كونراد أديناور، أول رئيس حكومة ألمانية، نهاية أربعينيات القرن الماضي.
كان ميرتس نائبًا في البرلمان الأوروبي من عام 1989 حتى عام 1994، وبعد ذلك نائبًا في البرلمان الألماني "البوندستاغ" طيلة 15 عامًا، من عام 1994 حتى عام 2009، ووصل خلال هذه الأعوام إلى قمة كتلته النيابية، لكنه خسر بعد ذلك الصراع على السلطة أمام "رفيقته" أنجيلا ميركل، الصاعدة، آنذاك.
وبعدما قرر عدم الترشح من جديد للبوندستاغ في عام 2009، واصل ميرتس مسيرته المهنية في مجال الاقتصاد، إذ شغل من عام 2016 حتى عام 2020 منصب رئيس مجلس إدارة "بلاك روك" في ألمانيا، وهي أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، وخلال هذه الفترة كان لديه عمل كثير في الولايات المتحدة الأمريكية، ليعود في عام 2021 إلى الترشح للبوندستاغ، وتم انتخابه.
ويواجه المستشار الجديد تحديات عدة على مستوى الداخل الألماني والخارج، ولعل التحدي الأول برز خلال انتخابه مستشارا، إذ يرى خبراء أن فشل ميرتس في الحصول على الأغلبية في الجولة الأولى من تصويت البوندستاغ، وهو أمر غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، كشف عن انقسامات داخلية في الائتلاف بين حزبه الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي (التحالف المسيحي) وبين الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
وإلى جانب هذا التعثر الانتخابي النادر، إذا جاز التعبير، يتحتم على ميرتس أن يتعامل مع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في بلاده، إذ تعيش ألمانيا "ركودًا اقتصاديًّا".
ويخطط ميرتس لتحفيز النمو من خلال صندوق بنية تحتية بقيمة 500 مليار يورو وزيادة الإنفاق العام، ورغم هذا الاندفاع يرى خبراء أن هذه الخطط تواجه مقاومة داخلية؛ بسبب التخوف من زيادة العجز المالي.
يضاف إلى ذلك، معركة الرسوم الجمركية مع الولايات المتحدة التي ستزيد الضغوط على الاقتصاد الألماني الذي يعتمد على التصدير بشكل رئيس، وهو ما يفرض على المسشار وفريقه العثور على بدائل وخيارات تخفف من تأثيرات الرسوم الجمركية.
ومن الملفات المعقدة التي ينبغي على المستشار التصدي لها، ملف الهجرة غير الشرعية؛ ذلك أن ألمانيا التي اتبعت سياسة "الباب المفتوح" خلال العقد الفائت، وخصوصًا خلال حقبة ميركل، فإنها بدأت تتحول إلى سياسة "الأبواب الموصدة"، وعلى ميرتس، كما يقول خبراء، أن يطبق هذه السياسة الجديدة بما تحملها من تعقيدات وتكاليف ومعضلات قانونية.
ومن المعروف أن ميرتس يتبنى موقفًا متشددًا تجاه الهجرة، حيث دعا إلى تقليص عدد اللاجئين المقبولين إلى ما دون الـ 100 ألف سنويًّا، وترحيل اللاجئين غير الشرعيين إلى دول مثل سوريا وأفغانستان، وفرض قيود صارمة على منح الجنسية.
ورغم أن هذه الإجراءات لا زالت في طور التصريحات، فإنها أثارت انتقادات من منظمات حقوقية، وأثارت جدلًا داخليًّا، وهو ما يعني أن ميرتس سيكون على موعد مع معارك قانونية، وعليه كذلك أن يشتبك مع منظمات حقوقية لتمريد خططه المتشددة بشأن الهجرة، التي تثير الانقسام، ليس فقط داخل المعارضة الألمانية، بل داخل الائتلاف الحاكم ذاته.
ومن المهام غير المتوقعة للمستشار الجديد هو التصدي لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف الذي يشهد صعودًا ملحوظًا، حيث أصبح ثاني أكبر قوة في البرلمان، بعد حزب المستشار.
ووفقًا لمراقبين، يتحتم على ميرتس أن يكافح طموحات هذا الحزب، الذي يظهر علانية الكراهية للأجانب، وأن يحرص على ما يسمى بـ"جدار الحماية"، تجنبًا للاحتمال الأسوأ، وهو أن يصل هذا الحزب يومًا ما إلى منصب المستشارية.
وفي حين يعزو خبراء هذا الصعود لليمين المتطرف إلى استياء الناخب من سياسات الأحزاب التقلدية، فإن على ميرتس أن يطرح أفكارًا وبرامج جذابة تقنع الناخب وتبعده عن تأثيرات اليمين المتطرف، الذي يعيد إلى الأذهان المآسي التي خلفتها الحقبة النازية، ولا سيما وأن الكثير من طروحات الحزب البديل تتقاطع مع سياسات تلك الحقبة المظلمة من تاريخ ألمانيا.
ووسط كل هذه الأعباء، يتعين على ميرتس أن يعزز مكانة بلاده في الاتحاد الأوروبي، والتي أصابها بعض الوهن نتيجة سياسات الائتلاف الهش السابق بقياد أولاف شولتس، والذي انهار نهاية العام الماضي، قبل اكتمال ولايته.
وفي هذا السياق، قالت رئيسة مكتب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في برلين، يانا بوليرين: "بعد سنوات من المشاحنات الداخلية والتدقيق السياسي المفرط في ظل الحكومة السابقة، فإن ما نحتاجه الآن هو قيادة ألمانية لا تكتفي بمراقبة السياسة الأوروبية بل تساهم في صياغتها".
وثمة مهمة هامشية أخرى على ميرتس أن ينهمك بإنجازها، وهي الابتعاد عن إرث ميركل، فالمحافظ التقليدي عليه العمل على كسب ثقة الناخبين الذين منحوا ثقتهم لسنوات لميركل ونهجها المعتدل.
ومن أبرز التحديات التي تواجه المستشار الجديد هو العمل على إصلاح العلاقات عبر الأطلسي.
وكتبت مجلة "فيرتشافت فوخه" الاقتصادية الأسبوعية أنَّ ميرتس "مؤيد للعلاقات عبر الأطلسي وصديق لأوروبا"، وهو بهذا "ربما الشخص المناسب تمامًا لهذه الأوقات".
ويخطط ميرتس للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للقاء الرئيس دونالد ترامب قبل عطلة الصيف، وهو ما يشير إلى نيته وسعيه لإصلاح العلاقات عبر الأطلسي، التي شابها الكثير من "سوء الفهم" منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
وفيما يتعلق بالملف الأوكراني، من المرجح أن يزيد المستشار الجديد الدعم لكييف، ويسعى للاتفاق مع شركائه الأوروبيين على ضمانات أمنية لصالح أوكرانيا في إطار أي اتفاق لوقف إطلاق النار مع روسيا.
وكان ميرتس قد تحدث في حوارات سابقة عما وصفها بـ"جريمة حرب خطيرة"، في إشارة إلى الحرب الأوكرانية، ووعد بتسليم كييف صواريخ "تاوروس" بعيدة المدى، التي يمكن أن تسبب مشاكل لروسيا بفضل مداها البعيد وقوة اختراقها، وتغير موازين القوى على الجبهات.
وكانت كييف طلبت من ألمانيا تزويدها بهذه الصواريخ لضرب أهداف روسية بعيدة عن الجبهة، خاصة البنية التحتية العسكرية العميقة، لكن بسبب مداها الكبير وقدرتها على إصابة أهداف داخل الأراضي الروسية، ترددت الحكومة الألمانية بقيادة شولتس في تسليمها خوفًا من تصعيد الحرب.