تبدو إيران في سباق مع الزمن، تطرق أبواباً لم تكن لتطرقها لولا ضيق الخيارات، لعل أحدها يفتح نافذة تفاوض مع الأوروبيين.
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل التحذير اللافت الذي أطلقه، مؤخراً، نائب وزير الخارجية الإيراني، سعيد خطيب زاده، بشأن احتمالية اندلاع حرب تشنها إسرائيل ضد طهران، عن مسار دبلوماسي أوسع تسعى القيادة الإيرانية إلى تفعيله بأي ثمن.
ويأتي في هذا الإطار إعلان الإفراج عن الفرنسيين المحتجزين لديها منذ العام 2022، سيسيل كولر وجاك باريس، كإشارة مباشرة محمّلة برسائل تهدئة موجهة إلى باريس، بوصفها إحدى القنوات الأوروبية القليلة التي لم تُغلق تماماً بعد، وربما الأقدر، حالياً، على التوسط.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن، أمس، أن سيسيل كولر وجاك باريس، المحتجزين في إيران منذ مايو 2022، "خرجا من سجن إوين"، واصفاً ذلك بأنه "خطوة أولى".
وأكدت الخارجية الفرنسية أن الفرنسيين "بأمان" وموجودان "في مقر البعثة الفرنسية في طهران، في انتظار إطلاق سراحهما النهائي".
لقد باتت، اليوم، طهران أقرب إلى اعتراف مضمر بأن النظام الإيراني يعيش واحدة من أكثر لحظاته هشاشة منذ سنوات، في ظل تزايد الضغوط الأمريكية والأوروبية، وتراجع قدرة وكلاء طهران الإقليميين على المناورة.
وخلال الساعات الأخيرة، نقل مصدر دبلوماسي أوروبي مطّلع على الملف الإيراني، في حديث خاص لـ"إرم نيوز"، بأن القيادة في طهران تتحرك بدافع القلق العميق من إشارات إسرائيلية بأن مرحلة الضربات الدقيقة قد تدخل مستوى أكثر إيلاماً.
التحركات الإيرانية تدور في فلك رفع الكلفة النفسية على إسرائيل، ودفع واشنطن لفتح قناة تفاوضية عاجلة قبل أن يتدهور الوضع ميدانياً. كما اعتبرت المصادر بأن تصريح خطيب زاده تضعه الأوساط الدبلوماسية الأوروبية في خانة الاستغاثة السياسية المتستّرة.
دبلوماسي أوروبي معني بمتابعة الاتصالات الخاصة بالملف الإيراني، أشار خلال حديثه لـ"إرم نيوز" إلى أن التحركات الإيرانية إزاء التحذير من الحرب مع إسرائيل أو إطلاق سراح المحتجزين الفرنسيين، تنبع، في جانب كبير منها، من شعور متزايد لدى القيادة الإيرانية بأن سلسلة الضغوط التي تتعرض لها بدأت تقترب من مستوى يصعب احتواؤه بالوسائل التقليدية.
ولفت المصدر الدبلوماسي، إلى أن "الرسائل الإيرانية العلنية، مثل الحديث عن احتمال حرب وشيكة مع إسرائيل، ترتبط بمحاولة توجيه تحذير سياسي أكثر من كونها تعبيراً عن موقف عسكري جاهز. ما يُقلق طهران في هذه المرحلة هو أن إسرائيل قد لا تكتفي بعد الآن بضربات أمنية تكتيكية، بل تذهب نحو استمرار استهداف منظّم للبنية الأمنية المرتبطة بالحرس الثوري في العمق الإقليمي سواء في اليمن أو فتح ميدان جديد في العراق".
وأضاف أن "القلق الإيراني لا يقتصر على التصعيد الإسرائيلي، بل يشمل شعوراً متنامياً بأن الولايات المتحدة وأطرافاً أوروبية بدأت تفقد صبرها حيال ما تعتبره مراوغة مستمرة من طهران في الملف النووي، بالتوازي مع استمرار دعمها لحركات مسلحة في الإقليم. هذا القلق ينعكس في رسائل داخلية واضحة، مفادها أن إيران تعيش على حافة حصار دولي، سواء عبر تشديد العقوبات أو خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي معها".
وتابع بالقول إن "طهران تدرك جيداً أن الوقت لا يعمل لصالحها، وأن هامش المناورة في علاقاتها مع العواصم الأوروبية بدأ يضيق على نحو غير مسبوق. من هنا، فإن إطلاق سراح المواطنين الفرنسيين كان خطوة محسوبة لإعادة تفعيل قنوات التواصل التي جُمدت في الأشهر الماضية".
وزاد، "هناك تصور واضح داخل دوائر صنع القرار الإيراني بأن باريس تحديداً قد تلعب مجدداً دور الوسيط، ليس بالضرورة على مستوى الملف النووي، بل ضمن مساحات أضيق تتصل بإدارة التوترات الإقليمية، وتخفيف الضغط الدولي. كما أن الجانب السويسري، بحكم موقعه التقليدي كوسيط، لا يزال يُستدعى من طهران كطرف يمكن استخدامه لإيصال رسائل مبطّنة أو اختبار نوايا الشركاء الأوروبيين".
وكشف المصدر أن الدبلوماسية الإيرانية بدأت بالفعل، محاولات تواصل خلفية مع موسكو، في محاولة للحصول على دعم سياسي ضمن دوائر مجلس الأمن، أو على الأقل لصياغة مقترح يتيح لإيران تخفيف حدة التوتر مع الغرب دون أن تظهر بمظهر المتراجع أمام خصومها. وأضاف: "يبدو أن طهران تراهن في الوقت الحالي على التوصل إلى مخرج سياسي يُبقي خطوط التفاوض مع الأوروبيين والأمريكيين مفتوحة، مقابل ضبط سلوكها الإقليمي بشكل مرحلي".
ووفق تقدير المصدر، فإن التحرك الإيراني الحالي "يعبّر عن نظام سياسي يعيش إحدى أكثر مراحله حساسية منذ سنوات، ليس فقط بسبب الضغوط الخارجية، بل بسببعد ب مؤشرات التآكل الداخلي التي تعمّقت الانقسامات المتزايدة بين النواة الصلبة للنظام وبقية مؤسساته".
كما أوضح المصدر الدبلوماسي الأوروبي في حديثه، أن بعض المؤسسات الأوروبية باتت تلاحظ تغيراً لافتاً في طريقة تفكير دوائر القرار الإيراني، واصفاً المشهد الداخلي لطهران بأنه "أقرب إلى إدارة قلق إستراتيجي مزمن". وقال إن هناك محادثات فنية جارية على هامش بعض القنوات الخلفية تشير إلى أن إيران باتت تتحدث عن نفسها بلغة دفاعية مفرطة، ما يعكس تراجعاً ملموساً في ثقتها بقدرتها على ضبط بيئتها الإقليمية دون وساطة دولية.
وأكد المصدر أن الأوروبيين "لا يقرأون التحركات الإيرانية الأخيرة بوصفها قراراً سيادياً تصاعدياً بقدر ما يعتبرونه مؤشراً على رغبة النظام في استثارة تحرك خارجي سريع، يعيد تشكيل الطاولة التفاوضية بطريقة تُجنّبه الانكشاف أمام الداخل الإيراني الذي بدأ يستهلك شعارات الصمود الإستراتيجي دون رؤية عوائد ملموسة".
وأضاف أن النظام الإيراني يبدو مدفوعاً أيضاً بـ"حسابات سياسية باردة"، فهو "يعي أن تجنب الانهيار الداخلي يمرّ عبر الحفاظ على الحد الأدنى من الرهبة الإقليمية، لذلك فإنه يرفع الصوت ليس فقط لردع إسرائيل، بل لإقناع مجتمعه السياسي والبيروقراطي بأنه لا يزال ممسكاً بمفاتيح القرار في منطقة محاصرة بالعواصف".
وختم المصدر بالقول إن "السيناريو الأقرب الذي يتوقعه الأوروبيون في حال استمر التصعيد اللفظي من إيران دون ردود إسرائيلية مباشرة، هو "تفعيل إيران لأدوات توتير محسوبة عبر وكلائها في المنطقة، مقابل تحرّك أوروبي غير علني لإعادة ضبط المشهد عبر نافذة تفاوضية ضيقة، يُعاد من خلالها إنتاج التهدئة الشكلية لا أكثر، على قاعدة تجنّب الانفجار، دون حل الأزمة".
المحلل السياسي المختص بالعلاقات الأوروبية الإيرانية، فارس الجلبي، قال خلال حديثه لـ"إرم نيوز" إن ما أقدمت عليه طهران في مسألة الإفراج عن الفرنسيين لا يمكن قراءته إلا ضمن مسعى واضح إلى خفض منسوب العداء المتبادل مع باريس، وفتح قناة تفاوض موازية خارج دائرة التوتر الأمريكي الإيراني. "الإيرانيون يعرفون أن باريس تمتلك تقليداً ديبلوماسياً في لعب دور الوسيط، حتى حين تكون مواقفها السياسية متشددة، وهي، حالياً، بوابة أقل كلفة من واشنطن أو لندن للدخول مجدداً في لعبة تدوير الزوايا مع الغرب".
وأضاف بالقول: "لا يمكن فصل هذه الخطوة عن تراكم الإشارات التي أرسلتها طهران عبر قنوات غير مباشرة مؤخراً، بما في ذلك زيادة مساحة الحركة أمام السفارة السويسرية داخل إيران. ما تفعله طهران هو إدارة أزمات عبر البوابة الإنسانية، بهدف استكشاف فرص ديبلوماسية أوسع".
ورأى الجلبي بأن التحذيرات التي أطلقها سعيد خطيب زاده، حول الحرب الإسرائيلية المحتملة ضد إيران، تعكس مخاوف إيرانية من الانزلاق إلى حرب لا تملك أدواتها الكاملة، خاصة أن التصعيد الإقليمي بدأ يفرض إيقاعاً إسرائيلياً غير متوقع في الحسابات الإيرانية. "لهذا، لا أستبعد أن تلجأ طهران إلى سياسة التهدئة الديبلوماسية مع العواصم الأوروبية لإحداث توازن في مشهد شديد الاحتقان".
في حين لفت إلى أن التصريحات الإيرانية الأخيرة، بما فيها تحذيرات سعيد خطيب زاده، تُشكل امتداداً لمقاربة الردع المتكامل التي تنتهجها طهران، والتي تجمع بين التصعيد الإعلامي والتحرك الدبلوماسي متعدد الاتجاهات، سعياً إلى إعادة تأهيل أوراقها التفاوضية مع الغرب من بوابة الملفات الأمنية، وليس النووية فقط.
ولفت إلى أن التحذير من حرب إسرائيلية لا يأتي من فراغ، إنما يُراد منه رفع منسوب القلق الإقليمي، وفرض طهران كفاعل لا يمكن تجاهله في أي ترتيبات أمنية تخص المنطقة.
وشدّد الجلبي على أن إيران، التي باتت تشعر بأن حرب غزة غيّرت قواعد الاشتباك التقليدي، تحاول توظيف هذه اللحظة لإعادة طرح نفسها كفاعل في المنطقة، من خلال التلويح بأن أي تجاهل لدورها سيؤدي إلى انفجار واسع النطاق، قد لا يبقى محصوراً في الجبهة الجنوبية لفلسطين.
ورجح الجلبي أن إعادة تدوير الوساطات الفرنسية والسويسرية من قبل إيران، بعد أشهر من الجمود، تُعبّر عن قلق إستراتيجي لدى طهران من فقدان السيطرة على المبادرة السياسية، ويضيف أن طهران تسعى من خلال هذه التحركات إلى ترميم حضورها الدبلوماسي، دون أن تبدو في موقع الضعف أو التراجع الكبير، ولهذا ترفق إشارات الانفتاح بتحذيرات ناعمة من الانفجار الإقليمي، كوسيلة ضغط مزدوجة، تستهدف الداخل الإيراني عبر ادعاء إظهار قوة الموقف، والخارج الأوروبي عبر خلق شعور بالحاجة إلى التهدئة بأي ثمن.
وختم الجلبي بأن ما يُقال، الآن، على لسان المتحدثين الإيرانيين، مثل خطيب زاده، تسعى فيه طهران لتحويل كل أزمة إلى فرصة استغاثة، لكنها، في الوقت نفسه، تواجه تحدياً في إقناع الأوروبيين بجدّية مساعيها، وسط شكوك مستمرة حول نواياها الفعلية من اللعب على حافة التصعيد.
في حين اعتبر الباحث السويسري في السياسة الأمنية الأوروبية والشرق أوسطية سيمون إدلر ، خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن تحذيرات خطيب زاده من احتمال اندلاع حرب إسرائيلية؛ جزء من خطاب مدروس بعناية يعكس رغبة طهران في إعادة تشكيل قنوات التفاوض عبر التلويح بفوضى محتملة.
بالنسبة لأدلر، فإن الربط بين التصعيد والحرب الإقليمية في تصريحات المسؤولين الإيرانيين يأتي دائماً في لحظات التوتر، لكنه لا يعني بالضرورة أن الحرب حتمية، ولكنها تُستخدم كأداة اتصالية لتعظيم المكاسب من التواصل مع القوى الأوروبية. وهو يرى أن ما جرى، مؤخراً، من إطلاق سراح المواطنين الفرنسيين، بالتزامن مع انفتاح إيراني نسبي تجاه الوساطة السويسرية والفرنسية، يُفسَّر ضمن محاولة لإعادة تدوير أدوات الضغط القديمة بأسلوب جديد، مع الحفاظ على لهجة العتاب السياسي إزاء الأوروبيين لتذكيرهم بأن استمرار العزلة لا يُفيد أحداً.
ويذهب في تحليله إلى أن الخطاب الإيراني الموجّه عبر تصريحات سعيد خطيب زاده يتقاطع مع إستراتيجية "التحذير الوقائي"، وهي تقنية خطابية تتعمد فيها طهران إدخال فكرة الحرب كإطار ذهني للتأثير على خيارات الفاعلين الأوروبيين، دون أن تعني بالضرورة نية التصعيد الفعلي.
ويؤكد أن إيران تدرك تماماً أن أي مواجهة شاملة في المنطقة لن تكون لصالحها في المدى المتوسط، لا سيما مع هشاشة وضعها الاقتصادي وازدياد الضغوط الداخلية، لكنّها تستثمر في التلويح بالحرب كوسيلة لتعزيز فرص التفاوض غير المعلن، مستفيدة من ضعف المبادرة الأوروبية حيال الملفات الإقليمية، ومن الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي بين تيارات التشدد والانفتاح.
ويضيف أدلر أن انفتاح إيران، مؤخراً، على وساطات فرنسية وسويسرية، وتحديداً بعد إطلاق سراح الفرنسيين، لن يكون فقط كمحاولة لإعادة فتح قنوات خلفية مع الغرب، وإنما أيضاً هو اختبار لطبيعة ردود الفعل الأوروبية حيال رسائلها، في ظل ما تراه طهران فرصة لإعادة التموضع الإقليمي بعد حرب غزة. ووفق رأيه، فإن الدبلوماسية الإيرانية تعتقد أن باريس وبرن قد تمثلان بوابتين عمليتين لتخفيف الحصار، "في مقابل تقديم تنازلات شكلية لا تمس جوهر نفوذها الإقليمي".
وأضاف أن "المقاربة الأوروبية حيال إيران تمرّ، اليوم، بلحظة مراجعة صامتة، خاصة بعد إطلاق سراح الرهائن الفرنسيين. لا أحد في برلين أو باريس يملك تصوراً نهائياً لزيادة التصعيد ضد طهران، لكن الجميع يدرك أن أي فرصة ديبلوماسية، حتى لو كانت محدودة، لا يجب التغافل عنها".
وختم بالقول: "ما يقلق الأوروبيين، فعلياً، هو أن هذه الخطوات قد تكون جزءاً من لعبة تكتيكية قصيرة الأمد لا أكثر، أي أن إيران تريد تهدئة العواصم الأوروبية مؤقتاً لكسب مساحة تنفّس، وليس لبدء مسار تفاوضي حقيقي. لذا، من غير المتوقع أن تبادر أوروبا إلى تحركات جريئة، لكنها، في الوقت نفسه، لن تغلق الباب بالكامل. ما يمكن أن يحصل هو تنشيط القنوات الخلفية، دون الإعلان عن ذلك، بانتظار اتضاح موقف واشنطن وتل أبيب من أي مفاوضات غير مباشرة".