يأتي الإعلان الأخير للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن استعداد بلاده لتعزيز التعاون الأمني مع نيجيريا في مرحلة تتبدّل فيها خرائط غرب أفريقيا على وقع تحولات عميقة.
المشهد الإقليمي بات محكوماً بشبكات عنف عابرة للحدود، وبفراغات سياسية وأمنية تراكمت بعد الانسحابات الفرنسية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
وفي هذا السياق، بدا واضحاً أن الاتصال بين ماكرون والرئيس النيجيري بولا تينوبو، يعكس إعادة نظر فرنسية في كيفية التعامل مع منطقة تتغير موازين القوة فيها بسرعة لافتة.
التحرك الفرنسي يجد صداه في نيجيريا التي تواجه واقعاً أمنياً يتداخل فيه العامل المحلي مع الضغط الإقليمي، ويكشف عن بحث مشترك بين باريس وأبوجا عن صيغ جديدة للتعاون تتناسب مع متطلبات المرحلة، بحسب ما أفادت به مصادر دبلوماسية "إرم نيوز".
هذا التطور يأتي وسط حساسية متزايدة ناجمة عن التصريحات السابقة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي لوّح فيها بإمكانية تدخل عسكري "لحماية المسيحيين في نيجيريا"، وهو خطاب أثار مخاوف نيجيرية وأوروبية على حدّ سواء بالنظر إلى تعقيد المشهد الداخلي في شمالي البلاد.
ماكرون، من جهته، اختار مساراً مختلفاً، معلناً استجابة مباشرة لطلب نيجيري بالدعم، من دون أن يحدد طبيعة هذا الدعم أو مداه، مكتفياً بالإشارة إلى رغبة أبوجا في تعزيز التعاون لمواجهة التهديدات الأمنية.
ويكشف مصدر دبلوماسي فرنسي أن الاتصال بين ماكرون وتينوبو، كان بداية لمراجعة عملية للكيفية التي يمكن لفرنسا من خلالها الحفاظ على دور مؤثر في غرب أفريقيا دون العودة إلى الأنماط الثقيلة من الانخراط العسكري.
ويؤكد المصدر خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن الإليزيه تلقّى بالفعل طلبات نيجيرية واضحة تتعلق بتطوير برامج تدريب متخصصة للقوات العاملة في ولايات الشمال، إضافة إلى دعم تقني في مراقبة الحدود وتعزيز قدرة أجهزة الأمن على تتبع شبكات تهريب السلاح والاتجار بالبشر.
ووفق المصدر، فإن باريس تبحث عن نموذج يتجنب الاحتكاك المباشر مع الرأي العام في دول المنطقة، وهو ما يجعل "الشراكات الأمنية الخفيفة" خياراً عملياً بعد التجارب القاسية في مالي والنيجر.
ويفسّر المصدر هذا التوجّه باعتباره محاولة للحؤول دون خسارة آخر مساحات النفوذ في غرب أفريقيا، عبر التعاون الأمني والاستخباراتي الذي يُبنى بناءً على طلب حكومات المنطقة، كما حدث في حالة نيجيريا.
على مستوى الاتحاد الأوروبي، تبدو القراءة مختلفة لكنها متقاطعة في بعض جوانبها مع المقاربة الفرنسية، حيث يشير مصدر دبلوماسي أوروبي إلى أن بروكسل تنظر إلى استقرار نيجيريا باعتباره عنصراً محورياً في أمن غرب أفريقيا، خصوصاً أن المنطقة باتت معبراً رئيساً للهجرة غير النظامية والسلاح من وإلى الساحل.
ويضيف المصدر خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن تصاعد الهجمات في الولايات الشمالية النيجيرية، بما في ذلك الخطف الجماعي والاعتداءات على الكنائس والمدارس، دفع مؤسسات أوروبية إلى مناقشة ترتيبات دعم فني وتدريبي للقوات النيجيرية خلال الشهرين الماضيين.
وعلى المستوى الأمريكي، يكشف مصدر دبلوماسي في واشنطن لـ"إرم نيوز" أن توجهات ترامب تجاه نيجيريا، تعكس مزاجاً سياسياً داخلياً يفضّل مقاربة أكثر حضوراً في ملفات أفريقيا جنوب الصحراء، خصوصاً بعد التوسع الصيني والروسي في المنطقة.
ويشير المصدر إلى أن واشنطن ترى في نيجيريا "شريكاً محتملاً يمكن البناء عليه"، لكنها في الوقت نفسه تلاحظ تردّد أبوجا في الانخراط ضمن مسار قد يُنظر إليه داخلياً على أنه اصطفاف مع طرف خارجي في نزاع يعتمد في بنيته على عوامل محلية متشابكة.
ويضيف المصدر أن الإدارة الأمريكية تدرك حساسية المقاربة الفرنسية، وأن أي تحرك أمريكي أحادي في الملف النيجيري قد يربك جهود التنسيق مع أوروبا، ويخلق توترات جديدة في بيئة أمنية هشّة بطبيعتها.
وبحسب المصدر، تحاول واشنطن الآن تقييم مدى إمكانية تقديم دعم مباشر، ولكن بطرق لا تدفع الصراع نحو منحى ديني أو جهوي قد يزيد الوضع سوءاً.
وأفاد المصدر الدبلوماسي الفرنسي "إرم نيوز" بأن الاتصال الذي أجراه الرئيس ماكرون مع نظيره النيجيري، جاء ردّاً سريعاً على معطيات أمنية تشير إلى أن ديناميات العنف في شمال نيجيريا باتت تتقاطع بصورة أوضح مع شبكات تتحرك عبر النيجر وتشاد.
وذكر أن هذا التداخل "خلق قلقاً مشروعاً لدى باريس، بسبب قدرة الأحداث فيها على تغذية مسارات قائمة أصلاً في فضاءات الساحل".
وأوضح المصدر أن الانسحابات الفرنسية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو فرضت على باريس إعادة تقييم مدى قدرتها على متابعة الأنشطة العابرة للحدود، وأن أي اهتزاز في شمال نيجيريا يضيف طبقة تعقيد جديدة؛ لأنه يقع على تماس مباشر مع مناطق فقدت فرنسا فيها حضورها الميداني الذي كان يتيح لها مراقبة التطورات بصورة أفضل.
وتابع المصدر قائلاً إن باريس تتعامل مع نيجيريا باعتبار أنها "عامل ترجيح إقليمي"، موضحاً أن وزن نيجيريا السكاني والاقتصادي يجعل أي تغير في استقرارها الداخلي ذا تأثير يمتد خارج حدودها؛ الأمر الذي يفسّر حساسية فرنسا تجاه هذا الملف.
وأضاف أن هناك خشية من تسارع حلقات العنف العابرة للحدود في حال لم تُعالَج الاختلالات الحالية بتنسيق دولي واضح.
وأشار إلى أن الخبراء الأمنيين في باريس يتابعون باهتمام إعادة هيكلة القوات النيجيرية، ويرون أنها "فرصة لبلورة شراكات تقنية جديدة أكثر واقعية".
ولفت إلى أن الجانب النيجيري أبدى استعداداً لتوسيع التعاون في مجال الرقابة الجوية والحدودية، وهو ما تعتبره فرنسا محورياً في الحد من تحرك الجماعات التي تتحرك في المثلث الحدودي بين نيجيريا والنيجر وتشاد.
وقال المصدر إن نجاح التعاون مع نيجيريا يتوقف على وجود تنسيق أوسع مع شركاء أوروبيين وأفارقة.
وأوضح أن "النشاط العابر للحدود لا يمكن معالجته بدعم ثنائي فقط"، وأن باريس ترى في هذا الملف "فرصة لتجربة نموذج تعاون جديد لا يتطلب وجوداً عسكرياً، لكنه يمنح الدول في أفريقيا أدوات أفضل للتعامل مع بيئات أمنية معقدة ومتغيرة".
من جانبه، اعتبر الباحث النيجيري تشيدوزي أوكافور، المتخصص في قضايا الأمن الإقليمي، خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن التواصل الأخير بين الرئيسين ماكرون وتينوبو يمثّل، بالنسبة لأبوجا، "فرصة لإعادة ضبط علاقتها مع القوى الدولية بطريقة تحافظ على استقلالية القرار النيجيري، لكنها تستفيد من الدعم الأمني الذي تحتاجه القوات العاملة في الشمال".
وأوضح أن نيجيريا لا تبحث عن "انتشار أجنبي" بأي شكل، بل عن دعم تقني قادر على تقليل الفجوة المتزايدة بين قدرات الدولة ومتطلبات المشهد الأمني المتحوّل.
وأضاف أوكافور أن التحديات في شمال البلاد لم تعد محصورة في الجماعات المتشددة، إنما باتت تشمل تحولات أعمق في الاقتصاد غير النظامي، شبكات التهريب، ونزاعات الأرض والموارد.
وأشار إلى أن "نيجيريا تعرف أن الحلول الأمنية تحتاج إلى تغطية سياسية واقتصادية موازية، لكن وجود شريك خارجي قادر على توفير أدوات تقنية متقدمة قد يختصر بعض مراحل المواجهة".
وذكر أن أبوجا تنتظر من فرنسا ثلاث نقاط أساسية: "تعزيز التدريب المتخصص، وتحسين قدرات المراقبة الحدودية، وتطوير قنوات الاستخبارات المشتركة".
ويرى أن هذه المحاور "لا تمسّ السيادة ولا تهدد التوازن الداخلي"؛ إذ يمكن أن تمنح نيجيريا قدرة أفضل على إدارة المسار الأمني الذي أنهكها خلال السنوات الماضية.
ولفت أوكافور إلى أن المنطقة تعيش حالة انتقالية غير مسبوقة بعد تغيّر موقع فرنسا في الساحل وصعود فاعلين دوليين جدد، وأن نجاح أي تعاون يعتمد على إدراك كل طرف لحساسية المرحلة، وعدم الإفراط في الوعود التي قد لا تستطيع نيجيريا أو فرنسا تنفيذها بالسرعة المطلوبة.
بدورها تلفت سيلين ماريان، الباحثة الفرنسية المتخصصة في سياسات الأمن والدور الأوروبي في أفريقيا، إلى أن الاتصال بين باريس وأبوجا يكشف أن فرنسا لم تتخلَّ عن غرب أفريقيا رغم انسحاباتها العسكرية، لكنها "تعيد صياغة وجودها بما يتناسب مع الواقع الجديد، حيث لم يعد ممكناً الاعتماد على نماذج التدخل التي كانت سائدة قبل عقد من الزمن".
وتقول خلال حديثها لـ"إرم نيوز" إن باريس تنظر إلى نيجيريا باعتبار أنها "مركز ثقل سياسي واقتصادي"، وأن أي تعاون معها يجب أن يكون شفافاً وقائماً على الطلب النيجيري؛ لأن "فرنسا لا تريد أن تظهر بمظهر الدولة التي تعود إلى المنطقة بآليات الماضي، لا سياسياً ولا أمنياً".
وترى ماريان أن نيجيريا، رغم اتساع حجم العنف في شمالها، لا تزال تملك مؤسسات قادرة على تطوير حلول محلية، وأن "الدور الفرنسي يجب أن يكون مساعداً ومكملاً، وليس بديلاً عن دور الدولة".
وتضيف أن الساحات الحدودية بين نيجيريا والنيجر وتشاد "أصبحت مناطق مفتوحة لحركة جماعات مسلحة متعددة الأوجه"؛ ما يجعل تبادل المعلومات وتحسين الرقابة الجوية "أهم من أي وجود ميداني قد لا تريده الحكومات أو المجتمعات المحلية".
وتشدد ماريان على أن فرنسا تواجه اختباراً مزدوجاً: "من جهة تريد الحفاظ على علاقات متوازنة مع الدول الكبرى في غرب أفريقيا، ومن جهة أخرى تريد تفادي أي مقارنة بين مبادرتها الحالية وتجاربها السابقة التي أثّرت على صورتها في المنطقة".