لا تزال دول الساحل الإفريقي في متاهةِ فجوة تعدينية كبرى، حيث إنّ الفرق بين كميات الذهب المستخرجة وكميات الذهب المصدرة أو الموظفة في السوق المحلية، كبير جدّا. فعلى الرغم من امتلاكها وامتلائها بمناجم الذهب إلا أنّ الكثير منه يتوه بين سلاسل التهريب وبين منظومات الاقتصاد الموازي، ما يجعل هذه الدول تدور في دائرة فقر مفرغة ومغلقة.
وتتشكّل المنطقة السياسية للساحل الإفريقي من عشر دول هي: السنغال، غامبيا، موريتانيا، غينيا، مالي، بوركينا فاسو، النيجر، تشاد، الكاميرون، ونيجيريا، وفق "استراتيجية الأمم المتحدة المتكاملة لمنطقة الساحل (UNISS)"
ووفقًا للمؤتمر العالمي للتعدين WMC فإنّ دول مالي وبوركينا فاسو وموريتانيا تزخر بمادّة الذهب، في حين تتوفر لدى الكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا موارد متميزة من النفط. وتُعد مالي ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا، ولديها أيضًا موارد طبيعية أخرى.
وفي هذا السياق، كشفت منظمات مدنية أوروبية عن تهريب أطنان من الذهب بقيمة مليارات الدولارات من إفريقيا سنويًا، وأشارت هذه المنظمات إلى أنّ ما بين 321 إلى 474 طناً من خام الذهب الإفريقي لا يتم التصريح عنه، فيما تتراوح قيمته النقدية ما بين 24 إلى 35 مليار دولار.
وترسم هذه المنظمات مساراً تصاعدياً خطيراً لتهريب الذهب الإفريقي حيث تُؤكد أنّ التهريب آخذ في تصاعد مستمر ومطّرد وخلال عقد واحد ما بين 2012 و2022 تضاعفت نسبة التهريب.
وفي غانا، تؤكّد التقارير الرقابية الدولية أنّ خسارةً بمليارات الدولارات تُسجل سنويًا جرَّاء عمليات التهريب من مناجم "التعدين" الحرفي المزدهر في البلاد.
ووفق التقارير ذاتها، تم تسجيل فجوة تعدينية خطيرة بـ230 طناً مترياً من مادّة الذهب خلال 5 سنوات، حيث تعادلُ هذه الفجوة 11.5 مليار دولار.
ويؤكد خبراء أنّ الظاهرة أكبر بكثير من هذه الأرقام المقدمة حيث إنها باتت تشكل اقتصاداً موازياً كاملاً عابراً للأقطار، معتبرين أنّ هذه النسب والمعطيات على خطورتها وأهميتها، ليست سوى الرأس الظاهر من جبل فساد مستشرٍ في القارة الإفريقية.
اعترف مسؤولون غانيون رفيعو المستوى بهذا النزيف الخطير الذي يتهدد اقتصاد البلاد ويضعها دائماً على قائمة الدول الفقيرة في مؤشرات التنمية ومحاربة الفساد؛ حيث وصف مسؤول في لجنة تنظيم المعادن في غانا هذه الأرقام بالحقيقة المعروفة والتي تشكل وصمة عار وخزي.
في الأثناء تعلن دول إفريقية الحرب على منظومة تهريب الذهب من أراضيها، معترفة في الوقت نفسه بصعوبة هذا الإجراء، حيث إن شبكة المستفيدين من "تهريب الذهب" مركبة ومعقدّة ونافذة أيضاً.
وأعلن المجلس العسكري في مالي، بداية 2025، الحرب على منظومة تهريب الذهب في البلاد، وهي منظومة قوامها التنقيب غير القانوني وفي مناجم بعيدة وغير شرعية، ودون أدنى مقومات للسلامة المهنية.
ويؤكد خبراء في هذا السياق إلى أنّ هذه المنظومة الثلاثية استفحلت في مالي، نظراً لعجز الدولة عن بسط سيادتها على أراضيها كافة، والبطالة المستفحلة، وسهولة استخراج الذهب من الأرض حيث إنّ الطبقة الأرضية التي يتوفر فيها هذا المعدن قريبة جدّا من سطح الأرض.
وأعلنت وزارة التعدين أن "مواقع التنقيب عن الذهب غير القانوني تشكلُ مصدراً لمآسٍ متكررة، منها انهيارات قاتلة نتيجة طبيعة النشاط الخطيرة، وصعوبة سيطرة السلطات على عمليات التعدين التقليدي".
وأضافت أنها في الفترة الماضية تمكنت من تفكيك 61 موقعاً غير قانوني، ومصادرة 286 حفارة و63 مركبة.
وتجاوزت حرب الحكومة المالية جبهة شبكة تهريب الذهب من مهربين ومافيات ومنظمات الجريمة المنظمة عابرة للأقطار، نحو شركات أجنبية تشتغل على أراضيها ويبدو أنها ضالعة في هذه التجاوزات الفظيعة.
وتؤكد مصادر مالية أنّ علاقة الحكومة المالية مع شركة "بريك غولد" الكندية شهدت منعطفاً خطيراً جداً خلال الفترة السابقة، بعد أن صادر المجلس العسكري الحاكم في مالي 3 أطنان من الذهب كانت مخزّنة في منجم "لووولو- غونكوتو"، بقيمة مالية تناهز ربع مليار دولار.
وتتوافق المصادر الأممية والإفريقية أنّ جماعات الجريمة المنظمة وعلى رأسها الجماعات المتشددة تستفيد بشكل كبير من "تهريب الذهب" ويمثل لها عمقاً مالياً استراتيجياً يسمح لها بالانتشار الجغرافي وبالتسلح وباكتساب نفوذ على الأرض.
ودقّ تقرير مؤشر الإرهاب الدولي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام الدولي ناقوس الخطر حيال قدرة الجماعات المتشددة في منطقة الساحل الإفريقي على الاستفادة من الذهب، لا فقط في مستوى تهريبه والاستفادة المالية من التجارة الموازية، وإنما وهو الأخطر، في مستوى سيطرتها على مناجم الذهب وتحكمها في سلسلة التصدير.
وأورد التقرير أنّ الذهب أصبح عنصراً أساسياً في ديناميكيات الصراع في منطقة الساحل الإفريقي التي تفتقر لحكومات مركزية قوية ولاستشراء الفساد في هياكلها، مشيراً في المقابل إلى أنّ الذهب بات هدفاً استراتيجياً للجماعات المتشددة.
واستشهد التقرير ببوركينا فاسو حيث باتت مناجم الذهب هدفاً دائماً وأساسياً للجماعات المتشددة منذ 2018.
وحذّر التقرير أنّ هذه الجماعات تسيطر على الكثير من المناطق التي يتم فيها تعدين الذهب، وتجمع الضرائب من عمّال المناجم، مشيراً إلى مفارقة جدّ خطيرة متمثلة في أنّ الحكومة في بوركينا فاسو تسيطر فقط على نحو 60 بالمئة من أراضيها وبالتالي فإنّ جزءاً كبيراً من المنطقة الزاخرة بالذهب (خاصة في شمال البلاد) تقع تحت سيطرة الجماعات المتشددة وأباطرة التهريب.
في مقابلة صحفية مع "فايننشال تايمز"، يقدّم أحد الزعماء المحليين صورة ميدانية عن تهافت الجماعات المتشددة على مناجم الذهب، وعلى توحشها الإجرامي ضدّ القوات الحكومية وضدّ المدنيين، للاستيلاء عليها، وهو جهد محموم ينتهي في الكثير من الأحيان إلى اندلاع مواجهات دامية بينها وبين الجماعات المتشددة الأخرى.
ويقول الشيخ "كيبسا ويدراوغر" وهو زعيم إحدى البلدات الحدودية بين بوركينا فاسو ومالي، إنّه ما إن تظهر مؤشرات على تعدين الذهب في أي موقع من شرقي مالي أو جنوبها أو شمال بوركينا فاسو، حتى تهرع هذه الجماعات إليه وتسيطر عليه بقوة وتفرض إتاوات على العمال.
وتتوافق رواية الزعيم المحلي مع بعض العمليات التي قام بها تنظيم "داعش" في ولاية غاو بمالي، حيث إنه نصب كميناً للجيش مما أدى إلى مقتل 50 عنصراً من القوات المسلحة المالية، وذلك بعد يوم فقط من سيطرتها بمعية قوات معاضدة لها على منجم "إنتاهقا"، والذي – حسب روايات متقاطعة- يملك "داعش" حصة من أرباحه.
ووفق تقديرات مجلس الذهب العالمي، فإنّ بوركينا فاسو ومالي والنيجر تنتج سنوياً 230 طناً من الذهب، بقيمة نقدية تساوي 15 مليار دولار.
وتبقى هذه الأرقام محل تشكيك، في ظل انعدام سجلات لعمليات التعدين الصغيرة التي تتم يدوياً وفي ظلّ التهريب الذي ينخر جسم اقتصادات هذه الدول وثرواتها الباطنية.