بعد قرابة عامين على سيطرة أذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ في هجوم خاطف أواخر سبتمبر/ أيلول 2023، لا يزال آلاف اللاجئين الأرمن الذين فرّوا من الإقليم يواجهون صعوبات يومية في أرمينيا، ويقاومون دعوات الحكومة إلى "طيّ الصفحة" والتخلي عن أمل العودة إلى أرضهم.
في تقرير نشرته صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية، تنقل الصحفية إستيل ليفريس من منطقة "خناتساخ" جنوب البلاد، مشاعر الحزن والخذلان التي يعيشها اللاجئون، في ظل مشهد يومي يعكس ضياع الأرض والهوية.
وتُظهر الصور المرافقة للتقرير أعلام أذربيجان ترفرف في سماء القرى التي كانت في السابق رموزًا لسيادة الأرمن في الإقليم المتنازع عليه.
ومن بين هؤلاء، يقف ماروت فانيان على تلة مرتفعة في جنوب أرمينيا، ناظرًا بحسرة إلى التلال التي تفصله عن وطنه المفقود.
فانيان كان يعمل في مجال التصميم والطباعة في العاصمة السابقة للإقليم، ستيباناكرت، قبل أن يتحول إلى العمل الصحفي بعد الحصار الذي فرضته باكو على الإقليم لمدة 9 أشهر.
ويقول: "بيتي على بعد أقل من ساعتين، لكنني لا أستطيع الوصول إليه. هذا مؤلم للغاية".
في مدينة غوريس، تقود منظمات غير حكومية محلية مثل "Mission Armenia" و"Caritas International" جهودًا لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي والمهني للاجئين. وتشمل المبادرات ورشات تدريب على الزراعة والمهن اليدوية، في محاولة لإعادة دمجهم اقتصاديًا.
ولكن هذه الجهود تواجه تحديات كبيرة، خصوصًا بعد قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يناير/ كانون الثاني الماضي وقف تمويل وكالة "USAID" داخل أرمينيا، ما تسبب في تقليص كبير للبرامج الإنسانية.
وفي خطوة زادت من معاناة اللاجئين، أوقفت الحكومة الأرمينية في يوليو/ تموز 2025 المساعدات المالية الشهرية البالغة 50 ألف درام (نحو 110 يورو) التي كانت تُصرف للنازحين، باستثناء الأطفال، وكبار السن، وذوي الإعاقات.
وجاءت الخطوة وسط ضغوط اقتصادية متزايدة وانتقادات مجتمعية، ما ساهم في تفاقم الشعور بالإقصاء لدى اللاجئين.
ومن جانبه، يقول الباحث السياسي بنيامين بوغوصيان من مركز "APRI Armenia" للأبحاث: "في البداية، قوبل اللاجئون بتعاطف كبير واعتُبروا ضحايا لعملية تطهير عرقي، لكن منذ ربيع 2024، بدأ هذا التعاطف بالتلاشي، وظهرت اتهامات بأنهم موالون لروسيا أو متورطون مع شبكات فاسدة قديمة".
وتجلى هذا التحول المجتمعي في مواقف شخصية، حيث يقول ماروت فانيان: "في إحدى المرات، كنت أتكلم بلهجتي المحلية في الحافلة، فواجهتني امرأة بحدة، قائلة إنني مجرد ضيف، وعلي ألا أتجاوز الخطوط الحمراء. تخيل أن تكون أرمنيًا وتشعر كأنك غريب في بلدك!".
بدورها، تحاول الحكومة الأرمينية التخفيف من الأعباء عبر برنامج لإعادة التوطين، حيث يُمنح اللاجئون قسائم مالية تتراوح بين 3 إلى 5 ملايين درام لبناء أو شراء منازل، ولاسيما في المناطق الحدودية المهددة بالتفريغ السكاني.
لكن الإقبال على هذه المناطق محدود بسبب غياب فرص العمل والمخاوف الأمنية من تجدّد النزاع.
ويُشترط للحصول على هذه المساعدات أن يمتلك اللاجئ جواز سفر أرمينيا جديدا لا يتضمن أي إشارة إلى ناغورنو كاراباخ، وهو ما يرفضه كثيرون، خشية فقدان أي رابط رسمي بأرضهم الأصلية.
ومن بين هؤلاء ستيلا هاروتيونيان، وهي مدرّسة لغة إنجليزية تعيش في أحد مراكز الإيواء في يريفان برفقة والدتها المريضة وابنها البالغ 12 عامًا، تقول: "إذا غيّرت وضعي القانوني، أخشى أن أفقد حق السكن”.
وأضافت، "كما أن ابني سيكون مجبرًا على أداء الخدمة العسكرية، وأنا لا أريده أن يذهب إلى الحرب. خسرنا ما يكفي".
ومع استمرار رئيس الوزراء نيكول باشينيان في حثّ المواطنين على تجاوز حلم "أرمينيا الكبرى" والتركيز على "أرمينيا الواقعية"، تتصاعد الانتقادات من أطياف واسعة داخل المجتمع والمعارضة، التي تصرّ على ضرورة المطالبة بحق العودة، ورفض تحويل كاراباخ إلى مجرد ذكرى تاريخية.
وفي هذا السياق، من المرتقب أن يشارك باشينيان في اجتماع ثلاثي يُعقد في واشنطن، بدعوة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى جانب الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، لبحث مستقبل السلام والتنمية في المنطقة.
وخلص تقرير الصحيفة الفرنسية إلى أنه بالنسبة لآلاف اللاجئين مثل ماروت وستيلا، فإن الواقع اليومي لا يُقاس بالقمم الدبلوماسية، بل بالقدرة على البقاء، وعلى حفظ الذاكرة من الاندثار.