في سبتمبر 2025، وقّعت أمريكا وباكستان اتفاقية تُعدّ من أكبر الصفقات في تاريخ الأخيرة، لاستكشاف وتطوير وتكرير المعادن الأرضية النادرة.
وبموجب الاتفاق، ستستثمر شركة "يو إس ستراتيجيك ميتالز" الأمريكية 500 مليون دولار في مشاريع التعدين داخل باكستان، خاصة في إقليم بلوشستان الغني بالموارد.
وبحسب صحيفة "يوراسيان تايمز"، تقدّر الاحتياطيات الباكستانية بنحو 6 تريليونات دولار، رقم أثار حماساً محلياً واسعاً، واعتُبر منقذاً محتملاً لاقتصاد يواجه أزمة ديون حادة.
الصفقة، التي تبعتها أول شحنة معادن إلى البحرية الأمريكية، سُوقت داخلياً كـ"منعطف تاريخي" يمكن أن يخرج البلاد من أزمتها الاقتصادية؛ لكن خلف هذا الخطاب المتفائل، تظهر عقبات اقتصادية وأمنية وجيوسياسية تجعل نجاح المشروع موضع شك، بل وتثير انتقادات صينية حادة لواشنطن، التي تسعى بوضوح لتقليص اعتمادها على بكين في سوق المعادن الحيوية.
الاقتصاد الباكستاني الهش
تعاني باكستان من اقتصاد هشّ، إذ تتجاوز نسبة الدين إلى الناتج المحلي 75%، وتقترب الاحتياطيات الأجنبية من 20 مليار دولار فقط، في ظل بطالة مرتفعة وتوترات مالية مزمنة.
ويأمل المسؤولون أن تساعد الاتفاقية في تخفيف أعباء خدمة الديون بنحو 110 مليارات دولار على مدى خمس سنوات، وفق توقعات البنك الدولي.
إلا أن هذا التفاؤل قد يكون مفرطاً؛ فالقيمة المقدّرة بـ6 تريليونات دولار تبقى افتراضية وغير مثبتة ميدانياً. فوجود الاحتياطيات لا يعني بالضرورة إمكانية استخراجها بكفاءة اقتصادية؛ إذ تعتمد الجدوى على جودة الرواسب وكثافتها وتكاليف المعالجة، وهي بيانات لا تزال غير متاحة أو مؤكدة في باكستان.
تجربة دول أخرى تُظهر الفارق بين الإمكانات النظرية والواقع الاقتصادي؛ فالهند، رغم امتلاكها 6.9 ملايين طن من الاحتياطيات، لم تستطع تحويلها إلى رافعة اقتصادية فعالة، بسبب ارتفاع تكاليف الاستخراج والمعالجة.
منافسة الصين
في خلفية الاتفاق، تكمن الصين بوصفها القوة المهيمنة عالمياً على سوق المعادن النادرة. فمنذ أربعة عقود، استثمرت بكين في التعدين والمعالجة والتقنيات المتقدمة، حتى باتت تنتج 70% من الخام، و90% من المواد المعالجة، و98% من المغناطيسات النادرة المستخدمة في الصناعات التكنولوجية والعسكرية.
تحافظ الصين على هيمنتها من خلال إغراق الأسواق بالإمدادات وخفض الأسعار، ما يجعل أي منافس جديد، خصوصاً في بيئة غير مستقرة مثل باكستان، غير قادر على تحقيق جدوى اقتصادية.
ووفق مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، فإن "التلاعب المتعمّد من جانب الصين بالأسعار العالمية يجعل التعدين في دول أخرى غير قابل للاستمرار تجارياً". لذلك، فإن منافسة الصين في سوق المعادن النادرة تُعدّ شبه مستحيلة في الظروف الحالية.
تكمن المفارقة الكبرى في أن معظم احتياطيات باكستان المعدنية تقع في مناطق غير مستقرة مثل بلوشستان وخيبر بختونخوا، وهما إقليمان يشهدان تمرداً مسلحاً واسعاً؛ فبلوشستان، رغم غناها بالموارد، تبقى الأكثر فقراً وتهميشاً، ويُنظر فيها إلى الدولة المركزية ككيان قمعي يستغل الثروات دون عائد للسكان المحليين.
ومع أن الصين استثمرت أكثر من 50 مليار دولار ضمن "الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني"، إلا أنها فشلت في تحقيق الاستقرار بالمقاطعة. فكيف ستنجح الولايات المتحدة فيما لم تستطع بكين تحقيقه؟
الخشية قائمة من أن يُفاقم الاتفاق الاحتقان المحلي والنشاط الانفصالي، خصوصاً إذا رأى البلوش أن الثروات تُستغل مجدداً دون مردود تنموي حقيقي.
لا تأتي الصفقة الباكستانية بمعزل عن استراتيجية أمريكية أوسع. فواشنطن وقّعت خلال عام 2025 عدة اتفاقيات مماثلة مع أستراليا وماليزيا واليابان وكمبوديا وأوكرانيا، في مسعى لتأمين سلاسل توريد المعادن الحيوية بعيداً عن الصين.
وتُعدّ أستراليا الشريك الأبرز، حيث تمتلك نظام تعدين متطوراً واستقراراً سياسياً، واستثمارات حكومية تفوق 1.25 مليار دولار في معالجة المعادن النادرة.
مقارنةً بهذه الدول، تبدو باكستان الحلقة الأضعف: اقتصاد مضطرب، مؤسسات ضعيفة، ومخاطر أمنية مرتفعة؛ ولذلك، يُرجّح أن تبقى مشاريعها على الورق لسنوات طويلة، دون قدرة على المنافسة الحقيقية أو توفير بديل استراتيجي للولايات المتحدة.
في جوهرها، تُعبّر الصفقة الأمريكية الباكستانية عن تحرك رمزي أكثر منه اقتصادي؛ فهي تُظهر رغبة واشنطن في منافسة الصين في قلب نفوذها الآسيوي، لكنها تصطدم بحدود الواقع: بيئة غير مستقرة، وموارد غير مؤكدة، وسوق عالمية تسيطر عليها بكين.
أما لباكستان، فالصفقة تبدو جرعة أمل سياسية أكثر من كونها مشروعاً تنموياً قابلاً للتحقق. فحتى لو توافرت الثروات، فإن استغلالها يتطلب عقوداً من الاستقرار، واستثمارات ضخمة في البنية التحتية والمعالجة، وهي شروط لا تزال بعيدة المنال.
في النهاية، تظل قيمة الـ6 تريليونات دولار أقرب إلى الوهم الاقتصادي منها إلى الواقع الجيولوجي، فيما يبقى الحلم الأمريكي بالتحرر من هيمنة الصين على المعادن النادرة رهين الزمن والمعادن والسياسة على حد سواء.