لطالما أظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتزازه الكبير بالعلاقة الخاصة التي تجمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولطالما أظهر للأمريكيين ثقته العالية في القدرة على التوصل إلى تسوية سريعة للحرب في أوكرانيا بمجرد عودته إلى البيت الأبيض.
وأظهر، في الوقت ذاته، تقليلًا دائمًا لقدرة سلفه في البيت الأبيض الرئيس السابق جو بايدن على التوصل إلى حل لهذه الأزمة التي تهدد الأمن العالمي، والتي قد تنزلق كما يقول إلى حرب عالمية ثالثة.
وعلى خلاف العادة تمامًا، سواء في مرحلة الانتخابات وما بعدها، أظهر الرئيس ترامب أيضًا انتقادا لاذعا وغير مسبوق في حجمه ونوعه وتوقيته ومفرداته كذلك للرئيس بوتين عندما وصفه بـ"المجنون"، وهو يعلق على سلسلة الهجمات التي تنفذها القوات الروسية داخل العاصمة الأوكرانية كييف وغيرها من المدن؛ الأمر الذي أدى إلى مقتل مزيد من المدنيين.
ترامب، سواء تحدث إلى مراسلي البيت الأبيض المرافقين له في نهاية أسبوع عطلة الذكرى التي يحتفل بها الأمريكيون هذا الاثنين، أو كتب على موقعه للتواصل الاجتماعي "تروث سوشيال"، فإن الرسالة واحدة في الاتجاه الروسي.
ترامب غرد، لاحقا، مقدما المزيد من التوضيحات عن موقفه الجديد والصادم للمتابعين هنا في العاصمة واشنطن: "لطالما كانت علاقتي جيدة جدا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكن حدث له شيء ما. لقد أصبح مجنونا بالتأكيد، إنه يقتل الكثير من الناس دون داع، وأنا لا أتحدث فقط عن الجنود لكني أتحدث كذلك عن إطلاق الصواريخ وطائرات دون طيار على مدن في أوكرانيا من دون سبب على الإطلاق".
هذه المفردات التي يستخدمها ترامب وهو يتحدث عن نظيره الروسي غير مسبوقة تمامًا في صياغتها تجاه رجل الكرملين الذي لطالما وصفه ترامب بعبارات بعيدة تماما عن هذه التي استعملها للتو.
ترامب بهذا النوع من المفردات في توصيف بوتين، والتعليق على هجومه على المدن الأوكرانية، أثار موجة هائلة من الأسئلة في واشنطن، عن توقيت إعلان هذا الاضطراب في العلاقة الشخصية مع بوتين. كما أثار في مقابل ذلك موجة تساؤلات عن مستقبل علاقة الإدارة الحالية في موسكو لاحقًا، خاصة في ظل المساعي الحثيثة التي تخوضها هذه الإدارة لتحقيق إنجاز في أوكرانيا منذ اليوم الأول لها في البيت الأبيض.
يقول مقربون من إدارة ترامب لـ"إرم نيوز" إن الإدارة الأمريكية انتهت إلى قناعة باتت واضحة جدا لدى المكلفين بالتعامل مع ملف حرب أوكرانيا أن التوصل إلى اتفاق مع موسكو في المرحلة الحالية بشأن أوكرانيا بعيد المنال؛ بسبب المطالب المعقدة التي يقدمها بوتين في كل مرحلة تفاوضية، كما أن الجانب الأمريكي بات يدرك في الوقت الحاضر أن مزيدًا من الضغوط على الحكومة الأوكرانية يفتح الباب أمام المزيد من المطالب الروسية في المراحل اللاحقة من المفاوضات.
انتهت هذه الإدارة، كما يقول المقربون من ترامب، إلى ذلك التقييم الذي كان قد تحدث عنه نائب الرئيس جي دي فرانس في وقت سابق، من أنه ربما بات الوقت الآن مناسبا لتفكير أمريكي مختلف في كيفية التعامل مع الأزمة، بدعوة الطرفين إلى مفاوضات مباشرة وتحوّل الدور الأمريكي إلى طرف ثالث أو الانسحاب الكامل من هذا الملف وترك الموضوع برمته للمفاوضات الثنائية بينهما في جانب والأوروبيين في الجانب الآخر.
ترامب وهو يتحدث عن عمق الخلاف بينه وبين بوتين يشير إلى قوله في وقت سابق إن الرئيس الروسي يريد أوكرانيا بالكامل وليس جزءا منها، ولكنه في حال أصر على ذلك فإن النتيجة ستكون سقوط روسيا في حد ذاتها.
حديث ترامب ليس جديدا عندما يقول إن طموح بوتين ليس الاكتفاء بجزء من أوكرانيا ولا حتى تلك الأراضي التي استولى عليها حتى الآن منها، وإنما هناك طموح خفي بالسيطرة على كامل أوكرانيا، ولكن في حالة كان هذا هو الهدف الروسي البعيد في هذه الحرب سيجعل الإدارة الأمريكية الحالية غير قادرة على تبرير موقفها أمام الأمريكيين بأنها عندما سعت إلى تقديم رؤية مختلفة للرأي العام الأمريكي عن هذه الحرب، التي كلفت الخزينة الأمريكية أموالا طائلة وجهودا دبلوماسية على مدار سنوات، لم تكن تدرك حجم الأزمة في جوهرها، لذلك كانت وعود ترامب الانتخابية والرئاسية في مطلع ولايته بانتهاء الحرب سريعا غير واقعية بالكامل.
على القدر نفسه من الانتقاد الذي وجهه الرئيس ترامب للرئيس الروسي، لم يسلم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي هو الآخر من سهام انتقادات ترامب، بعد أن حمّله الأخير مسؤولية تردي الأوضاع أكثر في هذه الحرب؛ بسبب تصريحاته غير الموفقة كما يصفها ترامب.
الرئيس الأوكراني كان قد تحدث بصورة علنية، وفي أول تصريح مباشر منه وعلني منذ ذلك اللقاء العاصف بينه وبين الرئيس ترامب في البيت الأبيض، عما وصفه بالصمت الأمريكي عن الحرب في أوكرانيا والذي قال عنه إنه يشجع الرئيس الروسي.
ترامب مباشرة رد على زيلينسكي بالقول إنه "لا يقدم خدمة لبلاده بحديثه بهذه الطريقة، وكل ما يخرج من فمه يسبب مشاكل، ذلك لا يعجبني ومن الأفضل أن يتوقف".
هذا هجوم آخر من جانب ترامب على الطرف الآخر في هذه الحرب، ولكن هذا الطرف يوصف بـ"الحليف" للولايات المتحدة في هذه المواجهة المفتوحة عسكريا ودبلوماسيا، حرب حتى وإن بدا واضحا أن الطرفين لا يزال الارتباك يطبع علاقاتهما، بعد ذلك الخلاف خلال زيارة زيلينسكي للبيت الأبيض.
ترامب مرة أخرى يرمي المسؤولية بعيدا عن نفسه وعن إدارته، فيما يتصل بهذه الحرب ومآسيها عندما يقول مجددا إنها حرب بوتين وزيلينسكي، مضيفا إليها الرئيس السابق جو بايدن، ومعيدا التذكير بتلك القناعة التي كررها في مناسبات كثيرة أنه لو كان رئيسا حينها ما كان لهذه الحرب أن تحدث من الأصل، مضيفًا أن كل الذي يفعله في الوقت الحاضر هو أنه يساعد على إخماد الحرائق الكبيرة والقبيحة التي أشعلها عدم الكفاءة الفادحة والكراهية، وفق قوله.
هذا هو السؤال الذي أعقب تصريحات ترامب، مباشرة هنا في واشنطن بين أركان إدارته، وخصومه في الحزب الديمقراطي، كما بدأ الحديث عن الخيارات المتاحة أمام هذه الإدارة في التعامل مع الرئيس الروسي في المرحلة المقبلة، خاصة منها تلك الأسئلة المتعلقة بمدى قدرة مبعوثي الرئيس ترامب على الاستمرار في جهود الوساطة في أوكرانيا، ومدى قدرة هؤلاء على تحقيق إنجاز بعد هذه التصريحات الجديدة من قبل رئيسهم.
يقول مقربون من إدارة ترامب إنهم لا يستبعدون أن يعيد ترامب تفعيل فكرة العودة إلى تطبيق عقوبات جديدة على روسيا في الأيام القليلة القادمة، بعد أن أعطي الكرملين الفرصة السياسية والزمنية الكافية.
يقول الغرماء الديمقراطيون من جانبهم إن ترامب يدفع ثمن تلك المرونة الواسعة التي أظهرها مع الرئيس الروسي خلال الشهور الماضية، وإنهم كانوا يتوقعون هذه النهاية لمساعي الإدارة الحالية، وسبق لهم أن حذروا من تكتيكات بوتين التي كان يفضل من خلالها دائما استغلال المسارات التفاوضية وجعلها طويلة الأمد لأجل تحقيق المزيد من المكاسب على الأرض، وهذا ما يفعله بوتين في الوقت الحاضر من خلال الاستمرار في المفاوضات مع الوسطاء الأمريكيين، ولكن في الوقت نفسه الاستمرار في تنفيذ أعنف العمليات العسكرية على الأرض ضد الأوكرانيين.
يقول قادة ديمقراطيون بارزون لـ"إرم نيوز" إن بوتين يعتقد أن تغير الخطاب في واشنطن تجاه بوتين هو علامة تشجيع له على الاستمرار في حصد المكاسب، وإن الأوروبيين بعيدا عن الدعم الأمريكي سوف لن يكون بإمكانهم إضعاف الموقف الروسي في أوكرانيا.
القادة الديمقراطيون يعتقدون أن إدارة ترامب لا تزال تملك فرصة تقوية الجانب الأوكراني مجددا على الأرض عن طريق استئناف المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا. ومن ثم خلق واقع عسكري مختلف على الأرض، وفرض عقوبات جديدة على موسكو، وكذلك أيضا تفعيل إمكانية تحريك الأموال الروسية المجمدة في الولايات المتحدة لدعم أوكرانيا.
يقول الديمقراطيون إن مجموع هذه الخيارات المطروحة على مكتب الرئيس ترامب من شأنها أن تغير المعطيات على الأرض وبصورة كاملة، وحينها سيجد الرئيس الروسي نفسه أمام واقع جديد يجعل من الطريق إلى تحقيق تسوية في الحرب ممكنًا بالنسبة للجانب الأمريكي، وبالتنسيق مع الشركاء الأوروبيين.