تثير مواقف الإدارة الأمريكية الأخيرة تجاه إيران الحيرة مما إذا كانت تأتي في سياق تكتيكات تفاوضية، أم أنها تشير إلى تخبطٍ محتمل من جانب واشنطن.
بعد تصعيد كلامي، وتشديد للعقوبات في فبراير/شباط، وتحشيد عسكري في مارس/آذار، أعلن ترامب بشكل مفاجئ، في 7 أبريل/نيسان، أن مفاوضات مباشرة ستعقد مع إيران، في 12 أبريل/نيسان.
مع ذلك فإن المفاوضات عقدت بشكل غير مباشر، واختتمت بلقاء سريع بين رئيسي الوفدين التفاوضيين، وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، والمبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف؛ مما أوحى بأن إدارة ترامب متحمسة للتوصل لاتفاق نووي بشكل سريع.
وعاد الرئيس الأمريكي، مساء الاثنين 14 أبريل/نيسان، ليتحدث عن بطء المفاوضات واحتمال اقتراب إيران من امتلاك السلاح النووي، وأن كل الخيارات لمنع حصول ذلك موضوعة على الطاولة، بما في ذلك الخيار العسكري.
ستيف ويتكوف بدوره خرج في مقابلة لافتة مع قناة "فوكس نيوز"، مساء الاثنين، ليقول إن إيران ستحتفظ بحق تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 3.67% - أي المستوى نفسه المحدد في الاتفاق النووي الموقع في 2015.
تصريحات ويتكوف فهمت بشكل طبيعي على أنها مؤشر على تخلي إدارة ترامب عن مطالبتها السابقة بنزع البرنامج النووي الإيراني وفق النموذج الليبي.
ولكن ويتكوف عاد إلى التصعيد، مساء الثلاثاء؛ إذ نشر الحساب الرسمي لمكتبه في الإدارة الأمريكية على موقع "X" تغريدة تقول إن الاتفاق الممكن مع إيران يجب أن يضمن أن تنهي إيران جميع أنشطة تخصيب اليورانيوم وبرامج تطوير الأسلحة (النووية).
فكيف يمكن فهم التقلب في مواقف ترامب وويتكوف، وأين تنتهي التكتيكات التفاوضية والإعلامية وأين تظهر الحقائق الصلبة المحددة للمسار؟
لا تختلف مقاربة ترامب جوهريا لمفاوضات الملف النووي الإيراني حاليا عن مقاربته لمفاوضات الحرب الروسية-الأوكرانية أو مفاوضات الحرب التجارية الحالية.
هناك نزعة واضحة لمحاولة الوصول السريع لإنجاز – أو لنكون أكثر دقة "الوصول لمشهد إنجاز" – حتى وإن كان هذا الإنجاز مشوبا أو غير ناضج.
هذه النزعة ظهرت بوضوح في ولاية ترامب الأولى في ملفات مختلفة. ففي يونيو/حزيران 2018 التقى ترامب الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، في أول لقاء من نوعه على هذا المستوى في تاريخ البلدين.
اللقاء تكرر في يونيو/حزيران 2019، وعبر ترامب، بشكل رمزي، الخط الحدودي الفاصل بين الكوريتين.
وبالرغم من هذين اللقاءين لم يحصل أي تقدم في المفاوضات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية حول ملفات أسلحة الدمار الشامل.
كما حاول ترامب لقاء الرئيس الإيراني حسن روحاني، بوساطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لمناقشة الملف النووي الإيراني، وذلك خلال زيارة روحاني إلى نيويورك في سبتمبر/أيلول 2018، إلا أن اللقاء لم يحصل، وبقي الملف النووي الإيراني يراوح مكانه إلى اليوم.
هذه النزعة من جانب ترامب لإظهار القدرة على تحقيق خروقات مفاجئة، والعمل من خارج الأطر المؤسساتية التقليدية، هي إحدى أهم السمات المميزة للعلامة التجارية لترامب. وهي في الحقيقة أحد أهم أسباب شعبيته في الداخل الأمريكي.
والتقلب في المواقف هو سمة مميزة أخرى للعلامة التجارية الترامبية، ونرى هذا بوضوح في حرب الرسوم الجمركية التي يخوضها ترامب حاليا.
في ضوء تجربة ولاية ترامب الأولى، وما ظهر منذ عودته للبيت الأبيض، لا يوجد في الحقيقة داعٍ لاستغراب تصريحات ترامب المتذبذبة تجاه إيران. ما يجب أن يكون مستغربا هو أن يختار ترامب المفاوضات مع إيران ليظهر فيها على نحو خاص بشكل متسق ومتناغم!
ولكن ماذا عن ويتكوف؟ العلاقة الشخصية والمهنية بين ويتكوف وترامب تعود، على الأقل، للعام 1983. وقد تعززت بشكل خاص بعد خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية في 2020. فبينما ابتعد كثيرون من حلفاء ترامب عنه، حرص ويتكوف على الاقتراب أكثر. ولهذا من الطبيعي اليوم أن يكون ويتكوف الأفضل تعبيرا عن طريقة تفكير ترامب وأولوياته، وأن يحاول من جانبه مجاراتها، وهذا ما يقدره ترامب كثيرا.
فبالرغم من عدم امتلاكه لأي خبرة دبلوماسية أو سياسية سابقة من أي نوع، إلا أن ويتكوف تحول سريعا إلى مبعوث ترامب المفضل. وقد وصفته صحيفة "وول ستريت جورنال" المحافظة، في 11 أبريل/نيسان، بـ"مبعوث كل شيء" (Envoy for Everything). فقد أرسله ترامب للتفاوض حول حربي غزة وأوكرانيا، كما قال ترامب إنه يستشير ويتكوف في قضايا مختلفة بما في ذلك ملف الهجرة والرسوم الجمركية.
أهمية دور ويتكوف تظهر في لقائه الرئيس الروسي ثلاث مرات هذا العام، في 11 فبراير/شباط، و24 مارس/آذار، و11 أبريل/نيسان. وآخر التسريبات تشير إلى محاولته إشراك روسيا في مسار المفاوضات النووية الإيرانية.
فبحسب صحيفة "الغارديان" البريطانية، في 15 أبريل/نيسان، تحاول الإدارة الأمريكية إقناع إيران بإخراج مخزون اليورانيوم المخصب الزائد عن المحدد في اتفاق 2015 إلى روسيا.
هذا المقترح ليس اعتباطيا. فإذا ما قبلته إيران فعلا، وساهم بدفع مسار المفاوضات النووية، فسيستطيع ترامب أن يقول للمشككين، في الداخل والخارج، إن التقارب مع روسيا مفيد للمصالح الأمريكية، حتى وإن لم يتم التوصل سريعا لتسوية للحرب الروسية-الأوكرانية.
هناك إذاً توافق واضح بين ترامب وويتكوف للوصول السريع لإنجازات في ملفات السياسة الخارجية، حتى الأكثر تعقيدا منها. ولهذا يجب ألا نستغرب أن تصدر المزيد من المواقف التي توحي بإمكانية تحقيق خرق في مسار المفاوضات النووية الإيرانية، بما في ذلك احتمال أن يقوم ويتكوف شخصيا بزيارة لطهران. ولكن هل يكفي التفكير خارج الصندوق، والعمل بشكل غير تقليدي لحل عقد الملفات الحساسة؟
مقاربة ترامب، كما ذكرنا، تجاه إيران ليست فريدة من حيث المبدأ. وسجلّ ولاية ترامب الأولى يظهر أن هذه المقاربة، في مختلف الملفات، بما في ذلك الملف النووي الإيراني، لم تحقق النتائج المتوقعة. وفيما يخص الملف الإيراني اليوم تحديدا، فإن ترامب يواجه واقعا أكثر تعقيدا من السابق.
الملف الإيراني – على عكس ملف الحرب الروسية-الأوكرانية – لا يشغل الرأي العام الأمريكي حاليا. ولا يمكن إقناع الناخب الأمريكي بأن الصفقة مع إيران ستمس تفاصيل حياته على نحو ملموس.
والمشكلة الأكثر تعقيدا بالنسبة لترامب قد تكون هي الافتقار للشركاء – في الداخل والخارج – في "أبوة" أي تفاهم جديد مع إيران؛ إذ يشترك الجمهوريون والديمقراطيون في التشكيك بفائدة المفاوضات مع إيران، وبجدوى الوثوق بها مرة أخرى. وهذا ما ظهر بوضوح، بالمناسبة، في عهد إدارة بايدن وساهم بإيقاف المفاوضات النووية مع إيران في خريف 2021.
وحاليا يحضّر الجمهوريون والديمقراطيون لحزمة غير مسبوقة من القوانين الهادفة لإضعاف النفوذ الإيراني في كل من العراق ولبنان واليمن.
كما لا يوجد اهتمام أوروبي هذه المرة بالمشاركة في المفاوضات النووية. وهذا عكس ما كانت عليه الحال في كل مراحل المفاوضات السابقة – من اتفاقية سعد آباد في يونيو/حزيران 2003 إلى مفاوضات فينا في خريف 2021 – والتي كان الأوروبيون خلالها الأكثر حماسة للخيار الدبلوماسي مع إيران.
ومن المرجح أن الجناح الأصولي في إيران – وهو المسيطر على مؤسسات الحكم حاليا في طهران – يرغب بالتفاوض مع الولايات المتحدة كتكتيك لشراء الوقت، ولاستكشاف نوايا إدارة ترامب الحقيقية، ولإسكات انتقادات الإصلاحيين والمعتدلين في الداخل، وأيضا لوقف النزيف الاقتصادي والمالي، إلا أن التيار الأصولي الإيراني أكد علنا، وبشكل متكرر، رفضه لتطرق المفاوضات للقدرات العسكرية الإيرانية. ومن المستبعد أن يقبل هذا التيار بتقديم تنازلات كبرى في الملف النووي نفسه.
من الواضح إذاً أن كفة التشاؤم ترجح بوضوح على كفة التفاؤل فيما يخص المفاوضات الأمريكية-الإيرانية. والتغلب على هذا التشاؤم يتطلب التزام الطرفين بمفاوضات مطولة. ولكن من المستبعد أن تدور هذه المفاوضات في هدوء، أو أن تنتهي بالطريقة ذاتها وفي الظروف نفسها التي بدأت فيها.
والتحشيد العسكري الأمريكي في المنطقة لا يزال يتصاعد بوتيرة لافتة؛ ففي الفترة ما بين 25 مارس/آذار و12 أبريل/نيسان نفذت القوات الأمريكية أكثر من 300 رحلة جوية (منها 228 رحلة بطائرة الشحن الثقيل "C-17") إلى قواعدها في الشرق الأوسط وجزيرة دييغو غارسيا.
كما تستمر العمليات العسكرية الأمريكية في اليمن؛ ففي الساعات الأولى من يوم الأربعاء 16 أبريل/نيسان، نفذت 29 ضربة جوية على الأقل في مناطق مختلفة من اليمن، وذلك ضمن الموجة الـ43 من الضربات العسكرية الأمريكية التي بدأت منتصف مارس/آذار.
كما تأتي هذه الضربات بالتزامن مع تواتر التقارير عن أن الانخراط العسكري الأمريكي في اليمن يمكن أن يصل قريبا لمرحلة دعم عمل عسكري بري.
فهل ستتابع إيران الجلوس إلى طاولة المفاوضات فيما يتعرض الحوثيون لضربات عسكرية غير مسبوقة؟ وهل يمكن أن يصدق التيار الأصولي في إيران أن ما تقوم به الولايات المتحدة في المنطقة يمكن أن يمهد فعلا لفتح فصل جديد في العلاقة الأمريكية-الإيرانية، وأنه ليس تمهيدا لتوجيه ضربة عسكرية كبرى لإيران؟ وهل يمكن أن يشجع هذا الصمت الإيراني التيارات المتحفظة في الولايات المتحدة على رفع سقف المطالب في الملف النووي؟
تدفع هذه الأسئلة بوضوح باتجاه المزيد من التشكيك في إمكانية التوصل لخرق جوهري خلال المفاوضات الأمريكية-الإيرانية. ولكن ما يبقى غير واضح تماما هو ما إذا كان ترامب سينتقل فعلا – وبشكل سريع – نحو الخيار العسكري ضد إيران.
بينما يستطيع المراقبون تحليل دوافع مقاربة ترامب للملفات المختلفة، ويستطيعون كذلك توقع عواقب قراراته، فإن التجارب تؤكد أنه ليس من السهل توقع توقيت خطوات ترامب وحجمها. وقراره باغتيال قاسم سليماني في مطلع يناير/كانون الثاني 2020 هو المثال الأهم هنا.