رأى خبراء سياسيون أن المشهد الدبلوماسي بين الجزائر وإيطاليا يتجاوز مجرد توقيع اتفاقيات، ليعكس تحولاً حقيقيًا في تموضع البلد العربي الاستراتيجي تجاه أوروبا، في وقت تشهد فيه العلاقات مع فرنسا واحدة من أسوأ أزماتها.
ويقول الباحث الفرنسي برونو تيرتريه، نائب مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية (FRS) في باريس إن "الجزائر تعيد رسم خريطة تحالفاتها في المتوسط، مدفوعة باعتبارات الطاقة والذاكرة التاريخية، حيث باتت روما اليوم شريكًا أكثر براغماتية وأقل إثارة للجدل من باريس".
ويلفت تيرتريه إلى أن الجزائر لا "تستبدل" فرنسا بإيطاليا فحسب، بل تعيد هندسة علاقاتها مع أوروبا انطلاقًا من منظور السيادة والمصالح الاقتصادية والسياسية.
ويضيف: "في ظل الغياب الفرنسي المتزايد، يبدو أن روما تملأ الفراغ بعقلانية وهدوء، واضعة نصب عينيها تحوّل الجزائر إلى مركز ثقل في معادلة الطاقة والهجرة والأمن الإقليمي".
واعتبر في تصريح لـ"إرم نيوز"، أنه بينما تراهن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني على موقع الجزائر كـ"بوابة للغاز الإفريقي"، تراهن الجزائر على شريك أوروبي أقل تصادمًا وأكثر واقعية في التعامل مع ملفات شائكة.
والنتيجة: شراكة تتجاوز البروتوكولات إلى تفاهم استراتيجي قابل للتوسع، بحسب المتحدث ذاته.
أما الباحثة صوفي بيسيس، المتخصصة في شؤون شمال إفريقيا والأستاذة في معهد الدراسات السياسية بباريس، فترى أن "فرنسا دفعت ثمن مزيج من الغطرسة الدبلوماسية وعدم القدرة على تجديد خطابها تجاه الجزائر، في حين استثمرت إيطاليا بهدوء وبصمت في علاقات واقعية قائمة على المصالح المشتركة، خصوصًا في ملف الطاقة".
وأضافت بيسيس لـ"إرم نيوز" أن "الجزائر كانت تنتظر من باريس مقاربة ناضجة قائمة على الندية، لا على الحنين الضمني إلى دور الوصيّ".
واعتبرت أن "تحول الجزائر نحو إيطاليا وألمانيا وحتى الصين وروسيا يعكس رغبة في كسر نمط العلاقة التقليدية مع فرنسا، التي ظلت تراوح مكانها منذ الاستقلال".
وكانت ميلوني، استقبلت يوم الأربعاء، الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في العاصمة روما، في زيارة رسمية شهدت توقيع مجموعة من اتفاقيات التعاون الثنائية، لا سيما في مجالات الطاقة والدفاع ومكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية.
وقالت ميلوني خلال مؤتمر صحفي مشترك: لقد وصلت علاقاتنا الثنائية إلى مستوى من العمق والتماسك لم يُسجل من قبل".
وأضافت أن هذه الزيارة تأتي ضمن المنتدى الاقتصادي الإيطالي-الجزائري، وتُتوَّج بخطوات عملية تُترجم "إرادة سياسية راسخة لتعزيز العلاقات التاريخية بين البلدين وتوسيع آفاق التعاون المشترك".
الطاقة أولًا
وأشادت ميلوني بالشراكة بين شركة الطاقة الجزائرية العملاقة سوناطراك ونظيرتها الإيطالية إيني (ENI)، قائلة إنها "ستزداد متانة بفضل الاتفاقيات الموقعة اليوم بحضور مديري الشركتين، رشيد حشيشي وكلاديو ديسكالتسي".
ولم تُكشف تفاصيل الاتفاقيات الجديدة، غير أن الشركتين كانتا قد وقعتا في وقت سابق من يوليو الجاري عقدًا بقيمة 1.35 مليار دولار لتقاسم إنتاج المحروقات، في خطوة تعكس تنامي الاعتماد الإيطالي على الطاقة الجزائرية بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
وأضافت ميلوني: "سنواصل العمل معًا لإنشاء ممرات جديدة للطاقة والرقمنة بين شمال إفريقيا وأوروبا".
ومنذ بداية الأزمة الأوكرانية، أصبحت الجزائر المورد الأول للغاز الطبيعي لإيطاليا، وشريكها الاقتصادي الأول في إفريقيا.
كما تم توقيع اتفاقيات ثنائية أخرى في مجالات الدفاع، ومكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، وهي ملفات ذات أولوية لكلا الطرفين، خصوصًا مع تصاعد التحديات في منطقة المتوسط، بحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية.
ويأتي هذا التقارب في وقت تشهد فيه العلاقات الجزائرية الفرنسية أزمة دبلوماسية غير مسبوقة، منذ صيف 2024، شملت طردا متبادلا للدبلوماسيين وتعليق جميع أشكال التعاون السياسي والثقافي، ما فتح الباب أمام دول أخرى، مثل إيطاليا، لشغل هذا الفراغ.