قال خبراء إن تصعيد أزمة العقارات الدبلوماسية بين فرنسا والجزائر يشكل انعكاسًا جديدًا لإعادة رسم السياسات الدبلوماسية بين البلدين، في ظل أرث استعماري طويل، وسياسات داخلية متأثرة بصعود التيارات الشعبوية.
ويرى الخبراء أن الخطوة الجزائرية الرامية إلى إنهاء "الامتيازات العقارية" المقدمة للسفارة الفرنسية، بعد خطاب متشدد من الرئيس إيمانويل ماكرون، ليست مجرد إجراء تقني بل حركة ذات دلالات رمزية قوية.
وأضافوا أن الغضب يتعزز من الخلفيات التاريخية التي راحت الجزائر تطالب من خلالها فرنسا بتعويض رمزي أو اعتراف بالظلم الاستعماري.
ولدى فرنسا أوراق ضغط، لا سيما في ملف التأشيرات والهجرة، مما يجعل المشهد دبلوماسيًا هشًا تتقاطع فيه الذاكرة، والقوة، والإقليمية.
ويتجاوز هذا الملف حدود الأراضي والممتلكات الأجنبية، ليمثل عبارة احتجاجية على النفوذ غير المشروط، مطروح شكله كإعادة قراءة لمفهوم السيادة في علاقات ما بعد الاستعمار.
وفي الوقت الذي يسعى فيه ماكرون إلى إبداء صرامة داخلية، فإن الجزائر تذكره بأن العلاقة يجب أن تُبنى أساسًا على التوازن والاحترام المتبادل، لا على امتيازات متوارثة.
وقالت صحيفة "لوموند" الفرنسية إن أزمة جديدة انفجرت بين باريس والجزائر، وهذه المرة حول ملف العقارات التي تستخدمها البعثة الدبلوماسية الفرنسية على الأراضي الجزائرية "بالمجان".
وأشارت الصحيفة إلى أنها خطوة من جانب الجزائر جاءت ردًا على ما وصفته الصحيفة بـ"التشدد" الذي أبداه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في رسالته المؤرخة 6 أغسطس، والتي دعا فيها حكومة فرانسوا بايرو إلى إظهار مزيد من الصرامة في التعامل مع الجزائر.
وأضافت أن وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية أعلنت، في 7 أغسطس، عن إنهاء إتاحة عقارات مملوكة للدولة الجزائرية لصالح السفارة الفرنسية على سبيل الإعارة المجانية.
"كما ألغت الجزائر اتفاق 2013 الخاص بالإعفاء المتبادل من التأشيرات لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية".
ووفق "لوموند"، فإن هذه الخطوة تمثل تصعيدًا متعمدًا، إذ تتجاوز "التعليق المؤقت" الذي أعلنه ماكرون، وتهدف إلى بعث رسالة بأن النظام الجزائري غير معني بفقدان تلك الامتيازات.
ورأت أن التصعيد الجزائري يحمل دلالات رمزية تتصل بتاريخ العلاقات بين البلدين وإرثهما الاستعماري، وأنه يأتي في وقت تتسم فيه العلاقة الدبلوماسية بالتوتر المستمر منذ عام، وسط ملفات أخرى شائكة، مثل: التأشيرات، والهجرة، والنفوذ السياسي في المنطقة.
من جانبه، قال الباحث السياسي الفرنسي المتخصص في الشأن الجزائري وأفريقيا، فانسان جيسيير إن "خطوة الجزائر بأنها رسالة سياسية مفادها أن الذكريات الاستعمارية لا تزال تلقي بظلالها الحقيقية على العلاقة الثنائية".
ورأى جيسيير أن "أي تعامل لا يأخذ هذا البعد بعين الاعتبار سيكون نصف قراره ناقصاً".
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن "الخطوة ليست مجرد انتقام رمزي، بل محاولة عميقة لتجاوز لحظة التراكم التاريخي، وإحداث تغيير في طبيعة التعاطي مع فرنسا كقوة فاعلة في المنطقة".
واعتبر أن في تحرك الجزائر اتجاه إنهاء الامتيازات العقارية خطوة إستراتيجية لإعادة توجيه العلاقات ليس فقط نحو النوعية بل نحو الهيكلية.
"كما أن هذه الخطوة، ترسل إشارات لنخبة صنع القرار في فرنسا أن أي استحقاق دبلوماسي لا يستند إلى التفاعل الجيوسياسي المتكافئ بات مهددًا داخليًا وخارجيًا".
وبدورها، قالت الباحثة في التاريخ المعاصر للمغرب العربي وعضوة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) كريمة ديريش، إن "التحول في الخطوة الجزائرية يعكس رغبة واضحة في تحييد بقايا النفوذ الاستعماري الفرنسي في المجال الدبلوماسي".
وأضافت ديريش لـ"إرم نيوز" أن "ملف العقارات الدبلوماسية يمثل أكثر من مجرد ممتلكات، إنه عنصر من ذاكرة القوة والسيادة المتبادلة بين دولتين تربطهما علاقات معقدة".
وأكدت أن رسالة الجزائر تهدف إلى تغيير قواعد اللعبة: "ليس في السلطة أو الامتياز، بل في طريقة النظر إلى العلاقة مع فرنسا، بحيث تُقام على أساس الاحترام المتبادل لا الوراثة الاستعمارية".
وأشارت هذه الخطوة بوصفها "انعكاساً لمرحلة جديدة من الاستقلال الدبلوماسي الجزائري".
ولفتت إلى أن الجزائر لم تعد راضية بأن تُدار العلاقة “من الخارج، وهي تستخدم النفوذ الرمزي – مثل العقارات وتأشيرات السفر – كأدوات في إعادة تحديد التوازن.
وتابعت: "الأمر لا يتعلق بحقوق مبنية على الماضي، بل بالتأكيد على سيادة الدولة الجزائرية في قراراتها الحالية".
كما ترى أن هذا التطور يضفي طابعًا جديدًا على العلاقة مع فرنسا، ويقوّض مفهوم النفوذ التقليدي لرئيس الجمهورية الفرنسية فيها.