أحدثت هجمات 7 أكتوبر 2023 تغييراتٍ كبيرة في إسرائيل لتصبح بلدًا مختلفًا، ولم يكن السبب في الصدمة المباشرة لمقتل نحو 1,200 شخص وأسر 251 آخرين فحسب، بل في الانهيار الكامل لجملة الافتراضات التي شكّلت وعي الإسرائيليين لعقود: أن دولتهم آمنة أكثر من أي وقت مضى، وأن العالم العربي يتقبّل "الواقع الإسرائيلي"، وأن التفوق التكنولوجي قادر على ضمان الأمن والازدهار في آنٍ واحد.
لكن بعد مرور عامين، لم تتحقق أسوأ السيناريوهات التي حذّر منها بعضهم؛ فلم تنزلق إسرائيل إلى حرب شاملة مع إيران أو حزب الله، ولم ينهَر الاقتصاد، لكن ومع ذلك، فإن التحولات العميقة التي أحدثها هجوم 7 أكتوبر كانت كافية لإعادة تشكيل بنية الدولة، وتحديدًا في ثلاث نقاط: استيلاء اليمين المتطرف على مؤسسات الحكم، واعتماد مفرط على الولايات المتحدة، وعدم تمدد الفاشية السياسية رغم الفرصة التاريخية التي أُتيحت لها.
ويرى مراقبون أن الهجوم الذي ظنه اليمين المتطرف دليلًا على صحة رؤيته — بشأن "الجوار المعادي" — منح هذه التيارات فرصة ذهبية لتوسيع نفوذها، لكن ومع ذلك، لم يتمكن المتطرفون من توسيع قاعدتهم الشعبية؛ فبعد أن حصد حزب "الصهيونية الدينية" وتحالف "عوتسما يهوديت" 14 مقعدًا في انتخابات 2022، أظهرت استطلاعات ما بعد الحرب تراجعهم إلى 12 مقعدًا فقط، وربما أقل، لكن المفارقة أن نفوذهم السياسي تضاعف داخل مؤسسات الحكم، رغم تقلص شعبيتهم.
ومن أصل 21 وزيرًا في حكومة نتنياهو، يعيش 5 في المستوطنات، السفير الإسرائيلي في واشنطن، والأمين العام للحكومة، ورئيس الشاباك الجديد ديفيد زيني — جميعهم من المستوطنين، وهكذا أصبحت الأقلية الأيديولوجية التي تشكل 5% فقط من السكان تتحكم فعليًا في قرارات الدولة.
ويحذر الخبراء من أن الحرب التي بدأت بشعار القضاء على حماس وإنقاذ الأسرى تحوّلت إلى حرب إعادة احتلال وتطهير ديموغرافي؛ فالجيش الإسرائيلي دمّر مدنًا كاملة في القطاع، في حين يتحدث وزير المالية بتسلئيل سموتريتش عن غزة كـ"فرصة عقارية" سيُعاد توزيعها بين مستوطنين ومستثمرين أمريكيين بعد انتهاء الحرب، ورغم إنكار نتنياهو وقادة الجيش نية الاحتلال الدائم، إلَّا أن الأفعال على الأرض — من تهجير واسع وبقاء قوات داخلية — تقول العكس.
في الضفة الغربية، تجري حرب موازية بلا توقف منذ 7 أكتوبر؛ فالجيش ينفذ عمليات جوية ويدمّر بنى تحتية في المخيمات، بينما يمارس المستوطنون عنفًا متصاعدًا ضد القرى الفلسطينية، ويستغل سموتريتش موقعه المزدوج كوزير مالية ومسؤول عن الشؤون المدنية في الضفة؛ لتوسيع المستوطنات، وشرعنة البؤر غير القانونية، وسحب عائدات الضرائب من السلطة الفلسطينية لدفعها نحو الانهيار — خطوات تُمهّد فعليًا لضمّ الأراضي.
وفي المقابل، كشف 7 أكتوبر هشاشة استقلال القرار الإسرائيلي؛ فالحرب التي امتدت إلى لبنان واليمن وإيران لم تكن ممكنة من دون 22 مليار دولار من المساعدات الأمريكية وصفقات تسليح ضخمة، لكن هذا الاعتماد ترافق مع تآكل الدعم الأوروبي: اعترافات رمزية بدولة فلسطينية، ومقاطعات اقتصادية، وحظر لتصدير السلاح، كما أن أوروبا لم تعد صديقة، والولايات المتحدة أصبحت الركيزة الوحيدة — بل إن دعمها نفسه بات يقتصر على الحزب الجمهوري، ما يجعل إسرائيل دولة “مؤدلجة أمريكيًا” أكثر من كونها حليفًا استراتيجيًا مستقلًا.
ورغم أن كل المؤشرات كانت توحي بصعود غير مسبوق للفاشية الدينية، فإن المجتمع الإسرائيلي لم يمنحها تفويضًا شعبيًا واسعًا؛ فما تزال الديمقراطية – وإن كانت منهكة – حية، والمزاج العام يميل أكثر إلى الإنهاك من الحرب لا إلى تمجيدها، لكن الأهم أن أي بقايا لفكرة حل الدولتين قد ماتت فعلًا، واستُبدلت بثقافة انتقام متبادل تُغذّي الحرب بدلًا من إنهائها.
ويعتقد محللون أن هجوم حماس في 7 أكتوبر لم يدمّر ثقة الإسرائيليين بجيشهم فحسب؛ بل عرّى كيف استطاعت أقلية أيديولوجية أن تُعيد صياغة الدولة من الداخل دون موافقة شعبية؛ فما بدأ كهجوم صادم تحوّل إلى لحظة إعادة تعريف: إسرائيل لم تعد "حصنًا آمنًا" بل كيان مشطور بين أمنٍ مفقود، ويمينٍ مهووس بالسيطرة، ومجتمعٍ يحاول النجاة من ذاته.