قبل أن يلتقط لبنان أنفاسه من المرحلة الأولى لتطبيق حصر السلاح جنوب نهر الليطاني، عاد الملف ليشعل الانقسام السياسي والأمني مع اقتراب الحديث عن الانتقال إلى شمال النهر، وسط تصاعد الضغوط الأمريكية، وارتفاع سقف التهديدات الإسرائيلية، وانكشاف التباينات داخل السلطة اللبنانية نفسها.
تؤكد مصادر سياسية مطلعة لـ"إرم نيوز" أن إعلان رئيس الحكومة نواف سلام الاستعداد للانتقال إلى المرحلة الثانية لم يكن خطوة تقنية بقدر ما كان رسالة سياسية موجهة إلى الخارج، في توقيت يتزامن مع اللقاء المرتقب بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والذي يُنتظر أن يرسم ملامح المرحلة المقبلة في لبنان.
لكن خلف هذا الإعلان، تشير المعطيات إلى أن ميليشيا حزب الله لا تتعامل مع ملف شمال الليطاني بوصفه مسارًا تنفيذيًا، بل كـ "معركة وجودية" مفتوحة، تسعى من خلالها إلى تعطيل أي مسار فعلي يؤدي إلى نزع سلاحها، عبر وضع شروط تعتبرها مصادر مطلعة "غير قابلة للتحقق في المدى المنظور".
تكشف مصادر أمنية لبنانية مطلعة لـ"إرم نيوز" أن السبب الجوهري الذي يدفع الحزب إلى المراوغة وشراء الوقت لا يرتبط فقط بالحسابات السياسية أو التوازنات الإقليمية، بل بحقيقة ميدانية باتت معروفة داخل الدوائر الأمنية؛ الحزب أخلى فعليًا معظم أسلحته الثقيلة ومستودعاته من جنوب الليطاني خلال الأشهر الماضية، ونقلها تدريجيًا إلى شمال النهر.
وبحسب هذه المصادر، تحول شمال الليطاني إلى مركز الثقل العسكري الأساسي للحزب، حيث تتركز غالبية البنية التحتية القتالية، من شبكات الأنفاق، إلى مستودعات الأسلحة الدقيقة، ومنصات الإطلاق، ومراكز القيادة والسيطرة.
وتؤكد التقديرات أن أي انسحاب أو تفكيك في هذه المنطقة لا يعني خسارة تكتيكية مؤقتة، بل ضربة مباشرة للبنية العسكرية التي أعاد الحزب بناءها بعد الحرب الأخيرة.

وتضيف المصادر أن هذا النقل لم يكن إجراء دفاعيًا ظرفيًا، بل جزء من إعادة تموضع أوسع فرضتها نتائج المرحلة الأولى من تطبيق حصرية السلاح.
ومع انكشاف الجنوب نسبيًا أمام رقابة الجيش والآليات الدولية، جرى تركيز القدرات النوعية في عمق أكثر أمنًا سياسيًا وجغرافيًا، بما يسمح بالحفاظ على القدرة العملياتية بعيدًا عن أي التزامات معلنة.
وبحسب التقديرات نفسها، يدرك الحزب أن أي قبول فعلي بالانتقال إلى شمال الليطاني سيضع هذه البنية تحت ضغط مباشر، سواء من الداخل اللبناني أم عبر مطالب دولية لاحقة، ما يفسر تمسكه بخطاب تفاوضي مرن شكليًا، مقابل تشدد ميداني صامت، يهدف إلى تثبيت الشمال كخط الدفاع الأخير، لا كورقة قابلة للمساومة.
بحسب المصادر اللبنانية، يشترط الحزب لأي نقاش حول شمال الليطاني، وقفًا كاملًا للعمليات الإسرائيلية، وانسحابًا من النقاط المحتلة جنوب النهر، وفتح ملف الاستراتيجية الدفاعية الشاملة.
ولكن هذه الشروط، وفق التقديرات نفسها، لا تُطرح باعتبارها أرضية حل، بل كآلية لكسب الوقت ومنع الانتقال العملي إلى المرحلة الثانية.
وتقول المصادر إن الحزب يدرك أن أي تقدم فعلي شمال الليطاني يعني عمليًا تفكيك بنيته العسكرية الأساسية، وتجريده من قدرته على فرض معادلات الردع، وهو ما تعتبره قيادته ضربة قاتلة لدوره الإقليمي ولموقعه داخل لبنان.
في موازاة ذلك، ترصد مصادر سياسية لبنانية محاولات واضحة من الحزب لاستثمار التباينات بين رئاسة الجمهورية، التي يمثلها الرئيس جوزيف عون، وقيادة الجيش اللبناني من جهة، ورئاسة الحكومة من جهة أخرى.
وبحسب هذه المصادر، يراهن الحزب على مقاربة أكثر حذرًا لدى المؤسسة العسكرية، التي ترى أن الانتقال إلى شمال الليطاني من دون توافق سياسي وضمانات خارجية يشكل مغامرة خطرة، في مقابل اندفاعة حكومية تهدف إلى امتصاص الضغوط الدولية، ولو على حساب تعقيد المشهد الداخلي.
تُجمع التقديرات الأمنية على أن إسرائيل لن تتخلى بسهولة عن النقاط التي تحتلها جنوب الليطاني، نظرًا لأهميتها الاستخباراتية والعسكرية في أي مواجهة مقبلة مع الحزب.
هذا الواقع يضع المرحلة الثانية أمام مأزق بنيوي؛ فالحزب يربطها بالانسحاب الإسرائيلي، فيما تعتبر تل أبيب هذه النقاط جزءًا من أمنها المستقبلي.
في ظل هذا التعقيد، يجد الجيش اللبناني نفسه عاجزًا عن استكمال مهمته، لا لضعف في الإرادة، بل لانعدام الشروط السياسية والأمنية التي تسمح بالتحرك شمال النهر من دون انفجار داخلي.
تكشف مصادر مطلعة أن واشنطن تعمل عبر آليات الميكانيزم على بلورة ورقة تفاهم جديدة بين لبنان وإسرائيل، في محاولة لمنع الانزلاق إلى مواجهة واسعة. غير أن هذه الجهود تصطدم، وفق المصادر، بتصلب موقف الحزب، الذي يسلّم أوراقه للدولة شكليًا، لكنه يحتفظ بجوهر قراره العسكري خارج أي التزام زمني واضح.
وتخلص التقديرات إلى أن استمرار هذا النهج يضع لبنان أمام معادلة خطيرة؛ إذ لا قدرة على نزع السلاح، ولا إمكانية لتثبيت التهدئة، ما يفتح الباب أمام سيناريو الحرب التي يسعى إليها بنيامين نتنياهو بأي شكل، في ظل غياب حل داخلي فعلي، وتعطيل متعمد لأي مخرج سياسي.