جاءت زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان–إيف لودريان إلى بيروت لتضع الملف الأمني اللبناني على عتبة مرحلة مختلفة، أكثر وضوحاً من جهة باريس، وأكثر حساسية من جهة الدولة اللبنانية.
الزيارة التي بدت في ظاهرها متابعة لمسار "الميكانيزم" تحوّلت سريعاً، وفق مصدر سياسي لبناني، إلى جلسة مراجعة شاملة للمسار التنفيذي لخطة "حصر السلاح"، وإلى محاولة فرنسية لإعادة ترتيب آليات التحقق الدولي في الجنوب، في ظل خشية من أي انزلاق قد يطيح بالهدوء الهش.
المصدر أشار في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" إلى أنّ لودريان دخل بعبدا "ومعه ملف مُعدّ بعناية"، يعكس ما تراكم في باريس من انطباعات حول الحاجة إلى تسريع الخطوات اللبنانية.
لكنّ ردّ الرئيس جوزيف عون جاء مباشراً بأن لبنان لا يحتاج إلى تصويب في دور الجيش، لأنّ المؤسسة العسكرية تقوم بما هو مطلوب منها بالكامل جنوب الليطاني.
هذا الموقف اللبناني، كما يكشف المصدر السياسي، كان رسالة واضحة لباريس بأنّ عمل الجيش ليس موضع تفاوض سياسي، وبأنّ الدولة ترى في الميكانيزم أداة سيادية ينبغي تعزيزها.
على الجهة المقابلة، كشف مصدر دبلوماسي فرنسي أنّ لودريان جاء إلى بيروت وفي ذهنه هدف واحد يتمثل بإرساء آلية محكمة لقياس التقدم الحقيقي في مسار حصر السلاح، وليس الاكتفاء بإعلانات النوايا.
باريس تعتبر أنّ الظروف الإقليمية والتوترات المتنقلة على الحدود تجعل من هذه الآلية شرطاً مسبقاً قبل أي دفعة جديدة من الدعم العسكري أو السياسي.
وذكر المصدر الدبلوماسي أنّ لودريان استمع باهتمام إلى موقف الرئيس عون حول دور الجيش، لكنّه شدّد في المقابل على أنّ فرنسا تحتاج إلى بيانات دقيقة حول انتشار وحدات الجيش، ومستوى تطبيق القرار 1701، وآليات التنسيق الميداني داخل الميكانيزم.
وهذا التدقيق، كما قال، ليس موجهاً ضد الجيش، وإنما "يهدف إلى حماية المؤسسة وتثبيت موقعها في أي تسوية طويلة الأمد".
وأضاف المصدر أنّ باريس ترى في تسمية السفير سيمون كرم لرئاسة الوفد اللبناني في الميكانيزم "إشارة إيجابية"، لأنها تعكس توحيد الموقف اللبناني وتعزّز فعالية اللجنة، خصوصاً في ظلّ أنّ المرحلة المقبلة "ستتطلّب دقة عالية في التفاوض ووضوحاً كاملاً في توزيع المسؤوليات".
في موازاة لقاء بعبدا، حمل لقاء وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي مع الموفد الفرنسي لغة واقعية، تعكس حجم الضغط الذي يعيشه الجيش في الجنوب.
ووفق ما تنقله المعطيات، شدّد رجّي على أنّ الجيش ينفذ مهاماً أكبر بكثير من قدراته الحالية، وأنّ أي خطة لبسط سيطرة الدولة على كامل الأراضي تتطلب توفير دعم عاجل للمؤسسة العسكرية، وليس تحميلها مسؤوليات تفوق ما هو متاح.
وبحسب المصدر الدبلوماسي الفرنسي، فإنّ لودريان "تفهم تماماً" هذا المنطق، لكنه ربط بين دعم الجيش و"وضوح خارطة الطريق اللبنانية" التي يفترض أن تسجل تقدماً ملموساً في الأسابيع المقبلة، ولا سيما في ما يتعلق بمنع التصعيد على الحدود والتزام الأطراف بالمسارات التي يرسمها الميكانيزم.
وتشير القراءة الفرنسية للواقع الراهن، كما ينقل المصدر الدبلوماسي، إلى أربعة عناصر أساسية تحكم زيارة لودريان، يتمثل أولها في أنّ أي انفجار أمني على الجبهة الجنوبية سيطيح فوراً بإمكان تثبيت وقف إطلاق النار طويل الأمد، وأنّ فرنسا ترى أنّ مفتاح التهدئة يبدأ من قدرة الدولة اللبنانية على إثبات فاعليتها الميدانية.
ويتجلى العنصر الثاني في أنّ باريس تريد حماية الجيش من الانزلاق إلى خطوط مواجهة مفتوحة، ولذلك فهي تضغط باتجاه رفع مستوى الحضور الدولي في متابعة التنفيذ وتدقيق الإجراءات على الأرض.
ويندرج العنصر الثالث ضمن إطار أنّ التواصل بين فرنسا ولبنان بلغ مرحلة تتطلّب "وضوحاً كاملاً" في مسؤوليات كل طرف.
ويتمثل العنصر الرابع في أنّ استمرار العمل بالميكانيزم دون تعطيل هو الشرط الوحيد الذي يمكن أن يحول دون انتقال الصراع إلى مرحلة أعلى من التصعيد.
المحلل السياسي اللبناني، رامي نادر، الخبير في السياسات الأمنية، يرى خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أنّ زيارة جان-إيف لودريان جاءت كمحطة ضغط سياسي-أمني مكتملة الشروط، تحمل دلالات تتجاوز إطار المتابعة التقنية للميكانيزم.
ويعتبر أنّ الرسالة الأساسية للزيارة هي أنّ فرنسا لم تعد تكتفي بالمراقبة من بعيد، وإنما دخلت فعلياً في مرحلة "التدقيق المباشر" في أداء الدولة اللبنانية، وهي مرحلة قد تُشبه، بشكل مبطّن، آليات الرقابة التي تعتمدها الأمم المتحدة في البيئات المتوترة.
ويذهب نادر إلى أنّ لبنان أمام تحدٍّ مزدوج: "من جهة، عليه إظهار جدّية غير قابلة للتأويل في تنفيذ خارطة الطريق المتعلقة بحصر السلاح وانتشار الجيش في مناطق التماس، ومن جهة ثانية، عليه حماية موقعه التفاوضي من الانزلاق نحو صيغة تُشعر الداخل بأنّ الدولة تستبدل دورها السيادي بوصاية دولية مقنّعة".
ويعتبر أن الرئيس جوزيف عون، عبر دفاعه الصريح عن دور الجيش جنوب الليطاني، قد وضع خطاً أحمر لبنانيّاً مفاده أنّ المؤسسة العسكرية ليست طرفاً يُحاسَب بضغط سياسي، إذ هي عماد الاستقرار الذي يحاول المجتمع الدولي أن يبني عليه ترتيبات وقف إطلاق النار الطويل الأمد.
أما كيف ستتعامل الدولة مع تبعات الزيارة، فيرى نادر أن لبنان سيلجأ إلى مقاربة واقعية: "من خلال تعزيز حضور الجيش ضمن الميكانيزم ورفع مستوى التوثيق في الإجراءات الميدانية، ومراكمة نقاط ثقة مع الجانب الفرنسي، ومحاولة تحصين القرار اللبناني داخلياً حتى لا يتحوّل الضغط الدولي إلى عنصر انقسام جديد".
ويختم قائلاً: "إنّ لبنان يستطيع تحويل الضغط الفرنسي إلى فرصة لإعادة تثبيت الدولة إذا أدار المرحلة بأدوات سيادية واضحة. اللحظة دقيقة، لكنها أيضاً لحظة يمكن استثمارها إذا امتلكت الدولة جرأة القرار".
من جانبها ترى كلودين مارتان، الباحث الفرنسية المتخصصة في شؤون الشرق المتوسّط، أنّ باريس تنظر اليوم إلى الملف اللبناني ضمن "مربع الطوارئ"، فالزيارة الأخيرة للودريان حملت بحسب وصفها، "نبرة الدولة التي تسأل أين وصلت التزاماتكم".
وبذلك تكون فرنسا قد انتقلت من دور الوسيط إلى دور الشريك المراقب، وهو تحوّل عميق يشير إلى تراجع هامش المناورة اللبنانية، وفق تعبير مارتان.
وتشرح الباحثة الفرنسية خلال حديثها لـ"إرم نيوز" أنّ باريس ترى في الجيش اللبناني الفاعل الوحيد القادر على إنتاج استقرار طويل الأمد، ولذلك فهي تدفع باتجاه آليات تحقق صارمة كي لا يتحوّل دعم الجيش إلى استثمار غير مثمر.
وفي قراءتها، فإنّ دفاع الرئيس عون عن المؤسسة العسكرية كان مهماً، لكنه لا يلغي حاجة باريس إلى مؤشرات أداء ملموسة على الأرض.
وتلفت إلى أنّ باريس تعتبر أنّ لبنان يملك الآن "نافذة زمنية قصيرة" قبل أن يدخل في مرحلة تقييم دولي أكثر تشدداً قد تترتب عليها نتائج سياسية، واقتصادية، وربما أمنية.
وهذه النافذة، وفق تقديرها، تمتد حتى شباط المقبل، حين تبدأ العواصم الغربية بتحديد مسار مساعداتها لعام 2026.
وترى مارتان أنّ فرنسا تعتمد حالياً ثلاث مقاربات متوازية: "أولاً، تسريع الضغط الدبلوماسي على الدولة اللبنانية لضمان التزامها بخارطة الطريق الأمنية. وثانياً، إعادة هندسة الميكانيزم ليصبح إطاراً قابلاً للقياس والتقييم. وثالثاً، فصل دعم الجيش عن التجاذبات الداخلية كي لا يصبح الدعم ورقة مساومة محلية".
وتختم بتحذير لافت: "باريس لا تسعى إلى الضغط على لبنان، بل إلى حمايته من الانفجار. لكن إذا شعرت بأنّ بيروت تُعيد تدوير الوقت بدل تنفيذ التزاماتها، فإنّ المقاربة الفرنسية ستتحول من دعم مضبوط إلى حزم معلن. ما زال هناك مجال للشراكة لكن الوقت يضيق".