ما زالت ردود فعل المبادرة التي أطلقها الرئيس اللبناني جوزيف عون من جنوب لبنان مؤخراً قائمة، في ظل ترجمتها في عدة رسائل، كانت الأهم تأكيده أن زمن هيمنة "حزب الله" على الجنوب انتهى، بعد أن كانت منطقة محرمة على المسؤولين وعلى المواقف الصادرة من الدولة، حال عدم التنسيق مع قيادة الميليشيا اللبنانية.
الرسائل التي أطلقتها أعلى سلطة في لبنان، رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، كانت محددة للداخل بأن "زمن الدولة قد بدأ" وأن فرض سلطتها سينطلق من الجنوب، وأن تحرير الأراضي والقرار السيادي مسؤوليتها وحدها، أما للخارج، فكان التأكيد على أن الجهة المخولة بحماية الجنوب هو الجيش اللبناني حصراً.
وقالت مصادر مطلعة في قصر بعبدا إن إصرار الموقف الرسمي اللبناني على حصر السلاح، خاصة في ظل الضغوط الأمريكية والدولية لنزع السلاح، هدفه دعم لبنان في إعادة الإعمار واستعادة ثقة المجتمع الدولي بلبنان.
وأكدت المصادر في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن الرئيس عون يريد تنفيذ خطة نزع للسلاح لا تهدد أمن لبنان، وفي الوقت نفسه لا تأتي بحرب أهلية أو تكرر أحداث 7 أيار التي قام بها "حزب الله" في عام 2008 وهددت الداخل.
وبينت المصادر أن رئيس الجمهورية يتعامل بسياسة "الصبر الاستراتيجي" سواء على المستوى الداخلي لعدم الوصول إلى فتنة تقود إلى حرب أهلية، وهو نفسه ما يحذر منه رئيس مجلس النواب نبيه بري، وأيضاً على المستوى الخارجي، في ظل عدم تحمل لبنان عدواناً إسرائيلياً آخر، خاصة أن المجتمع الدولي لا ينظر إلى حجم الاعتداءات التي تقوم بها تل أبيب في العمق اللبناني وتخرج عن أي إطار يتعلق بوقف إطلاق النار.
وبحسب المصادر، فإن الرئيس يقع بين "شقي الرحى": ضغوط من المجتمع الدولي تتصاعد بشدة من الولايات المتحدة بغرض تسليم السلاح بالسرعة المرجوة، وفي الوقت نفسه الضغط من "حزب الله" الذي يرفض تسليم سلاحه؛ ما يهدد بما لا يحمد عقباه بين البيئات في الشارع اللبناني.
وتقول الباحثة السياسية اللبنانية ميساء عبد الخالق إن مبادرة الرئيس عون من الجنوب قدمت محددات ترتكز على استلام الجيش النقاط المحتلة على الحدود الجنوبية مقابل التركيز على جهوزية لبنان للتفاوض مع إسرائيل برعاية أممية أو أمريكية أو دولية مشتركة، للوصول لاتفاق جديد يحمل صيغة نهائية لوقف الاعتداءات الإسرائيلية، وهو الأمر الذي تلقفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشكل إيجابي بدعوة الرئيس اللبناني لزيارة واشنطن.
وأضافت عبد الخالق في حديث لـ"إرم نيوز" أنها ليست المرة الأولى التي يعرب فيها الرئيس عون عن الاستعداد للتفاوض، في ظل توافق داخلي نحو مفاوضات عبر لجنة "الميكانيزم" مطعمة بخبراء مدنيين وليس من السياسيين، في وقت يرفض فيه "حزب الله" على لسان أمينه العام نعيم قاسم ذلك، بحجة أن اتفاق وقف إطلاق النار قائم وتخترقه تل أبيب.
وأشارت عبد الخالق إلى أنه يعول على مبادرة الرئيس عون فتح آفاق مظلمة في ظل مواصلة الاعتداءات الإسرائيلية التي تجاوزت 7 آلاف اعتداء ونتج عنها 331 قتيلا و945 جريحا منذ اتفاق وقف إطلاق النار في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وذكرت أن نقطة القوة الأساسية بيد الدولة في ملف حصر السلاح تتمثّل في القرار الحكومي الصادر في أغسطس/ آب الماضي، والذي شكّل الأساس القانوني لإطلاق خطة الجيش. وقد بدأ الجيش بالفعل بتنفيذ هذه الخطة مع رفع تقارير شهرية حول مسارها، وسط تقدم ملحوظ تُرجم بإنجاز شبه كامل للمهمة في منطقة جنوب الليطاني، وفقاً للجدول التنفيذي الموضوع لتطبيقها على مختلف الأراضي اللبنانية.
وبحسب عبد الخالق، هناك مهام معقدة في ظل رؤية "حزب الله" التي تقوم على حصر السلاح فقط في جنوب الليطاني، في حين أن الدولة تعتزم ذلك في الأراضي كافة، معتمدة على شرعية القرار، بالرغم من الصعوبات العملية في ظل ما تحقق بالفعل في وقت يتم العمل فيه على تسلم أسلحة وتفكيك ترسانة تابعة للتنظيم، وما أنجز حتى الآن ليس بالأمر السهل.
وأكدت عبد الخالق أن العائق الأكبر في حصر السلاح هو الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب، التي تعرقل وجود الجيش والعمل بالشكل المطلوب، بجانب ما تحتاجه القوات المسلحة اللبنانية من دعم عسكري موعود به لتحقيق المهمة، لافتة إلى أن الجيش اللبناني بلغ عدده في الجنوب 9 آلاف عنصر ومن المرتقب أن يصل إلى 10 آلاف نهاية العام الجاري، في وقت تظهر فيه مخاوف من حرب أهلية وفتنة، ولكن هناك رهانا على نهج تعامل الرئيس بـ"مشرط جراح" في ظل حرصه على عدم انفجار الوضع الداخلي بين الفرقاء في الشارع، وأيضاً الضغط الدولي القائم والمتصاعد، وفق تعبيرها.
وبدوره، يشير المحلل السياسي اللبناني ربيع ياسين إلى أن اختيار الرئيس عون زمان ومكان إطلاق مبادرته يحمل دلالات لافتة؛ إذ جاءت من الجنوب، المنطقة التي كانت خلال سنوات هيمنة "حزب الله" شبه محرّمة على المسؤولين وعلى صدور المواقف الرسمية من دون التنسيق مع قيادة التنظيم. ومن هناك، وقف رأس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة ليعلن مبادرته، موجهاً رسالتين واضحتين:
الأولى إلى الداخل، بأن "زمن الدولة قد بدأ"، وأن فرض سلطتها والانطلاق نحو استعادة القرار السيادي سيبدآن من الجنوب؛ والثانية إلى الخارج، بأن الجهة الوحيدة المخولة حماية الجنوب هي الجيش اللبناني دون سواه.
وأفاد ياسين في حديث لـ"إرم نيوز" بأن توقيت المبادرة يحمل دلالات لافتة؛ إذ جاءت عشية عيد الاستقلال بما يمثله هذا التاريخ من رمزية وطنية، كما تزامنت مع توتر دبلوماسي أعقب رسالة أمريكية أدت إلى تأجيل زيارة مقررة لقائد الجيش ريثما تُعاد ترتيباتها.
وأضاف أن إطلاق الرئيس عون مبادرته من الجنوب أعقبه مباشرة توجيه الرئيس ترامب دعوة رسمية له لزيارة الولايات المتحدة، في ما اعتبر مؤشرا مهما على أصداء المبادرة خارجياً.
وأكد ياسين أن المبادرة تأتي في صلب ما تعهّد به الرئيس في خطاب القسم، وفي مقدمته ملف نزع السلاح غير الشرعي، وهو بند وارد أيضاً في البيان الوزاري ويحظى بتوافق داخلي قبل أن يكون مطلباً خارجياً، باعتباره شرطاً أساسياً لبناء الدولة.
وأضاف أن الجيش وجّه من خلال تحركاته رسالة واضحة للخارج عن قدرته على السيطرة على النقاط الخمس، وأنه بمجرد اكتمال الانسحاب سيكون التنفيذ جاهزاً، مع استعداد الدولة للانتقال إلى طاولة التفاوض.
وتابع أنه "لا يمكن الاختباء بعد الآن"، وأن التفاوض مع إسرائيل، "يجب أن يتم بشكل مباشر لتحل مشكلتك برعاية أممية ودولية، حيث لم يعد التفاوض غير المباشر أمراً فعالاً" وفق تعبيره.
وأوضح ياسين أن الحكومة ورئيس الجمهورية يسيران في خط واحد حتى لو ظهرت أحياناً بعض التباينات، وأن الجانب الأمريكي منح لبنان مهلة تمتد من الآن حتى ما بعد زيارة بابا الفاتيكان، أي حتى نهاية السنة، حتى يبدأ اتخاذ خطوات عملية في سحب السلاح قبل نهاية العام، ولكن الدولة اللبنانية تعمل والمجتمع الدولي يساعد، ولذلك من المنتظر رؤية خطوات أسرع خلال الفترة المقبلة؛ وهذا ما يطالب به المجتمع الدولي لمساعدة لبنان بفعالية.