منذ أكثر من أسبوعين، تعيش السويداء ما يشبه الحصار بكل تفاصيله؛ مدينة خرجت للتو من أقسى محنة في تاريخها الحديث، تخللها قتال شوارع وإعدامات ميدانية وقصف على منازل المدنيين، وحرق للبيوت والأرزاق، تواجه اليوم، وفقًا لاستغاثات أبنائها، حصارًا يطال نصف مليون إنسان.
هذه رواية أولى تؤكدها الصور والفيديوهات القادمة من المدينة "المنكوبة"، لطوابير المنتظرين أمام الفرن الوحيد المتبقي على قيد العمل، مع خروج المستشفيات عن الخدمة، ونفاد المؤن، وسط استغاثات الناس على وسائل التواصل الاجتماعي: "أنقذونا من الحصار والتجويع".
بالمقابل، تبرز رواية مناقضة لـ السلطات السورية وإعلامها ومؤيديها من الناشطين و"التيكتوكر"، تؤكد أن لا حصار ولا مجاعة في السويداء، وأن قوافل المساعدات تتدفق على المحافظة، وما يمنعها من الوصول في معظم الأحيان هو الفصائل "الخارجة على القانون". فيما تشي حسابات هؤلاء الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، بشماتة صريحة بالجوع الذي يحاصر إخوتهم في الوطن، عبر تداول جماعي لهاشتاغ "أنقذوا السويداء" مرفقًا بصور هؤلاء أمام أفخر أنواع الطعام والمطاعم، في مشهد يبين انعدام التعاطف بين أبناء البلد الواحد وتشظي مكوناته بشكل غير مسبوق، كما قال العديد من المراقبين .
وصلت قافلة المساعدات الثالثة إلى مداخل محافظة السويداء جنوبي سوريا أمس الاثنين، قادمة من العاصمة دمشق.
وتتكون القافلة من 27 شاحنة محملة بمساعدات إنسانية متنوعة، بحسب ما نشره المكتب الصحفي لمحافظة السويداء، ومكتب العلاقات العامة في مديرية إعلام درعا.
وتشمل المساعدات، 200 طن من الطحين و2000 سلة إيواء و1000 سلة غذائية، إضافة إلى شاحنة مواد طبية، وأخرى تحمل المواد الغذائية المتنوعة. وجاءت هذه القافلة نتيجة جهود مشتركة بين المنظمات الدولية والحكومة السورية والمجتمع المحلي، بهدف تقديم الدعم والمساعدة للمتضررين في محافظة السويداء، بحسب المعرفات الحكومية للمحافظتين.
وأكدت مصادر إعلامية في السويداء، لـ "إرم نيوز" دخول القافلة برفقة "الهلال الأحمر السوري" و"اللجنة الدولية للصليب الأحمر" عبر طريق بصرى الشام- بكا، الذي بات بمثابة ممر إنساني وحيد باتجاه المحافظة.
ينفي محافظ السويداء، مصطفى بكور، منع الحكومة إدخال المساعدات، مؤكدًا أن "قوافل المساعدات الإغاثية والإنسانية تدخل إلى محافظة السويداء يوميًّا، وبشكل طبيعي من جهة بصرى الشام في ريف درعا، ولا توجد أي إعاقة في حركة المرور، والطريق سالك لدخول المنظمات الإغاثية إلى المحافظة" على حد قوله.
كما أكد المحافظ، في حوار مع وكالة الأنباء السورية (سانا)، أن الورشات الفنية والخدمية تواصل في الوقت ذاته أعمالها، لإعادة تأهيل بعض المقاطع المتضررة في الطريق، وضمان عودة الحركة الطبيعية إلى كل أرجاء المحافظة، وذلك بالتنسيق مع الجهات المعنية "لضمان سلامة المواطنين وتيسير تنقلهم بشكل آمن". وأوضح أنه يتم يوميًّا إدخال محروقات إلى محافظة السويداء من قبل وزارة الطاقة.
وحذا حذو المحافظ، العديد من المسؤولين في الحكومة السورية، الذين يؤكدون أن المساعدات مستمرة في الوصول إلى السويداء، فيما يمتنع كل هؤلاء عن الإشارة إلى طريق دمشق - السويداء المقطوع من قبل السلطة، والذي يُعتبر الشريان الأساس للمحافظة الجنوبية.
بالمقابل، تقول مصادر متقاطعة (إعلامية وأهلية) في السويداء لـ "إرم نيوز" إن التعبير الأنسب لِما يجري في المحافظة هو أن "السويداء منكوبة"، وأن ما يزيد على نصف مليون من أهاليها هم بحاجة ماسة إلى الماء والغذاء والدواء والوقود.
في هذا السياق، يلفت الصحفي السوري سوار الصفدي، وهو من المحاصرين في المدينة، إلى أن حبّة من البطاطا أو البندورة صارت بمثابة هدية ثمينة، إن وجدت في بيت كان حتى وقت قريب، عرضة للعنف والاستباحة .
يؤكد الصفدي لـ "إرم نيوز" أن الكهرباء مقطوعة منذ أسبوعين، وبالتالي المياه كذلك، وهناك محاولات لإصلاح بعض الأعطال من داخل المحافظة، إلا أن الوضع الأمني في القرى المحاذية لمحافظة درعا يمنع ذلك، حيث تعاني هذه القرى من قنص ولم يستطع حتى الآن أهالي السويداء الوصول إليها، حتى أن دفن الضحايا ممن قضوا بتلك المناطق غير ممكن حتى الآن. ويتابع: أكثر من 35 قرية محروقة بالكامل ونزح سكانها بأعداد تقارب الـ100 ألف إلى السويداء المدينة أو شهبا وصلخد.
ويشير إلى قرب نفاد المؤن نهائيًّا في كل المحلات التجارية والمستودعات، بسبب الاستهلاك اليومي لكامل المحافظة دون دخول بديل عنها، مؤكدًا أن مخبزًا واحدًا فقط يعمل في المدينة، وتوزع ربطة خبز واحدة على كل عائلة لسد الرمق وحسب.
ويوضح الصحفي (ابن السويداء) أن الوضع الطبي والصحي كارثي "هناك نقص كامل في كل الأدوية والسيرومات والعلاجات، والمشفى الوطني تضرر بشكل كبير وهو بحاجة ماسة لإعادة تشغيل. كما أن مرضى السرطان والأمراض المستعصية ومن يحتاجون إلى عمليات جراحية وأيضًا حالات الولادة القيصرية يعانون ظروفًا كارثية أكثر من غيرهم".
واتهم الصفدي الحكومة وإعلامها بالكذب، عبر إصرارها على رواية دخول القوافل إلى المحافظة، طيلة الفترة الماضية، مشيرًا إلى أن ما دخل من قوافل محدود جدًّا، وهي تدخل بشكل مزاجي وأقل من المطلوب بكثير، حيث تعترض معظمها حواجز الأمن العام في درعا، لتؤخر وصولها أحيانا وتمنعها أحيانًا أخرى، ومع ذلك فإن ما يدخل لا يلبي 10 في المئة من الاحتياجات الحقيقية، وفق قوله. ويتساءل الصفدي: "إذا لم يكن هذا حصارًا فما هو إذن؟".
من جهتها، الصحافية والناشطة النسوية السورية، هدى أبو نبوت، وهي ابنة مدينة إدلب، تحذر من استمرار تعامل السلطات السورية مع السويداء بهذه الطريقة. تقول "إذا بقيت السلطة تتعامل بطريقة تكسير الرؤوس، فالعاقل يعرف أين ستتجه الأمور بمحافظة لا منفذ لها ولا معبر"، في إشارة إلى استغلال إسرائيل لهذا النزاع.
وقالت في منشور على "فيسبوك" إن التعاطي مع النكبة التي حاقت بالمحافظة لم يكن على المستوى المطلوب إنسانيًّا من الدولة ومن عموم السوريين، الناشطين منهم على نحو خاص. فأنصار السلطة أنكروا بدايةً وجودَ أزمة إنسانية خانقة، ثم سرعان ما تبنّوا رواية تشير إلى إرسال مساعدات ومَنْع دخولها من قبل أنصار الشيخ حكمت الهجري، الذي بدأ الترويج له بوصفه هو مَن يُحاصر السويداء، وصولاً إلى الإقرار بأن قافلة المساعدات المُرسَلة إلى السويداء يوم الاثنين قد دخلت بلا عقبات".
يطالب أهالي السويداء اليوم، ومعهم العديد من المتضامنين السوريين بفتح طريق دمشق - السويداء، باعتباره الشريان الرئيس للمحافظة، وليس إرسال قافلة أو قافلتين إليها. وهذا يتطلب بحسب هؤلاء "أن تتصرف الدولة كدولة وليس كسلطة أمر واقع".
الصحفي الصفدي والناشطة أبو نبوت يتفقان على أنه "يجب السماح للمنظمات الإنسانية وعلى رأسها الهلال الأحمر بالدخول لتصليح أعطال الكهرباء وإعادة المياه، كما يجب أن يتعاون الهلال الأحمر مع الوزارات لإدخال كل مايلزم المحافظة بشكل يومي دون انقطاع، من حاجات القطاع الصحي والطبي إلى ربطة الخبز.
ويشدد الصفدي على ضرورة إبعاد كل القناصين عن القرى المحاذية لدرعا حتى يعود أهالي تلك القرى لتفقد قراهم، ودفن جثامين أهاليهم، والتوقف فورًا عن التجيش الطائفي، والسماح للصحافة بالدخول إلى المحافظة، لأن المنع يؤكد أن هناك انتهاكات تخشى السلطة من خروجها للعلن، على حد تعبيره.
ويرى أن تسييس مسألة المساعدات يجب ألّا يكون مقبولاً أو معتاداً، مضيفاً "في سوريا، ثمة مثال لا يجب نسيانه، هو الحصار الذي كانت تفرضه قوات الأسد على الغوطة أو مضايا بريف دمشق. وكذلك على درعا، وحينها كان لأهالي السويداء موقف معروف بتهريب الغذاء والدواء إلى أهالي درعا".
ولا تزال محافظة السويداء تشهد أزمة إنسانية، عقب أحداث عنف وانتهاكات مارستها كل من الحكومة ومسلحين يتبعون للعشائر وفصائل محلية موالية للرئيس الروحي للطائفة الدرزية، حكمت الهجري.
وبدأت الأحداث عقب حالات خطف متبادل بين عشائر البدو في السويداء وفصائل محلية درزية، أعقبها دخول الحكومة السورية وتحيزها إلى جانب البدو، فلاقت مقاومة شديدة، ليدخل عنصر العشائر لاحقًا، والقصف الإسرائيلي كعاملين إضافيين زادا تعقيد المشهد في المدينة.
ووفقًا لأحدث إحصائية صادرة عن "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" قتل ما لا يقل عن 814 سوريًّا بينهم 34 سيدة و 20 طفلًا، وستة أشخاص من الطواقم الطبية، وشخصان من الطواقم الإعلامية، في محافظة السويداء منذ اندلاع التوترات في الـ13 من تموز الحالي. فيما يورد المرصد السوري لحقوق الإنسان أرقامًا أكبر للضحايا، بينما لا تزال عشرات الجثامين في الريف الغربي للمحافظة خارج الإحصاء، نظرًا لمنع الأهالي من الوصول إليها. كما يُضاف إلى هؤلاء عشرات المفقودين والمخطوفين الذين لم يُعرف عنهم أي شيء رغم انتهاء المعارك قبل 10 أيام.