تعكس الزيارة الخارجية الأولى التي يقوم بها، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، علي لاريجاني، إلى العراق ولبنان، إلحاح طهران على استعادة موطئ قدم استراتيجي متقلص، وتنشيط ما يُعرف بـ "محور المقاومة" المنهك وسط ديناميكيات إقليمية متغيرة.
واختار لاريجاني بغداد وبيروت كوجهتين لأولى جولاته الخارجية، وهي إشارة إلى أن المدينتين لا تزالان تشكلان محوراً أساسياً في حسابات طهران الأمنية و"محور المقاومة" الأوسع، وفق تقرير لموقع "المونيتور" الأمريكي.
كانت زيارة العراق، التي تمحورت حول توقيع مذكرة تفاهم ثنائية حول أمن الحدود، أكثر من مجرد مناسبة احتفالية، إذ أبرزت جهود طهران في دعم شبكة من الحلفاء والوكلاء الإقليميين الذين يواجهون حالياً ضغوطاً شديدة بعد ما يقرب من عامين من الحرب مع إسرائيل، والتي غيّرت بشكل كبير ديناميكيات القوة في الشرق الأوسط.
وتُوّجت لقاءات لاريجاني مع المسؤولين العراقيين، بعد أقل من أسبوع من تعيينه، بتوقيع ما وصفته إيران عبر وسائل إعلامها بأنه اتفاق أمني "بالغ الأهمية"، لكن بحسب البيانات الرسمية، تهدف الاتفاقية إلى تعزيز الحدود الإيرانية العراقية، ومنع التسلل عبر الحدود، وتعزيز التنسيق ضد جماعات المعارضة الكردية.
من دوافع طهران المُلحة في سعيها لتعزيز علاقاتها الأمنية مع العراق التقارير المُستمرة التي تُفيد بسماح العراق للطائرات الإسرائيلية باستخدام مجاله الجوي خلال الصراع الإسرائيلي الإيراني في يونيو/حزيران، وهو ما نفته بغداد.
ورغم أن إيران لم تُوجّه اتهامات علنية للحكومة العراقية، فإن وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية والمُعلقين سعوا مؤخراً إلى الإشارة إلى مزاعم تحليقات جوية خلال تلك الفترة، ما فاقم انعدام الثقة في الشراكة الأمنية القائمة.
وبينما تشعر إيران بالقلق من تزايد الضغط على الميليشيات الإقليمية المتحالفة معها بعد سقوط حليفها بشار الأسد في سوريا، يخشى المتشددون الإيرانيون من ضغوط واشنطن على بغداد لعدم الموافقة على تشريع من شأنه أن يُضفي طابعاً رسمياً على قوات الحشد الشعبي كجهاز أمن دولة.
كما تأتي زيارة لاريجاني في الوقت الذي تواجه فيه قوات الحشد الشعبي في العراق، على الرغم من كونها لاعباً سياسياً وعسكرياً قوياً، تحديات وسط التنافس بين الفصائل.
ويبدو أن الحسابات الإيرانية تتمثل في أن قوات الحشد الشعبي المعاد تنشيطها، الموالية والمسلحة جيداً والمنسقة مع طهران، ضرورية لمواجهة الوجود العسكري الأمريكي، بما في ذلك دعم إيران في حرب متجددة مع إسرائيل.
أما في بيروت، تتقاطع أجندة لاريجاني أيضاً مع تزايد الضغوط الدولية على حزب الله، إذ قوبلت خطة الحكومة اللبنانية لنزع سلاح الحزب تدريجياً لتخفيف التوترات على الحدود الإسرائيلية اللبنانية بمعارضة شديدة من طهران، التي ترفض أي ترتيب من شأنه أن يحدّ من الدور العسكري لحزب الله.
وأدركت السلطات الإيرانية الحقيقة القاسية المتمثلة في أن التأثيرات المتتالية لحرب غزة أدت إلى إعادة معايرة الأولويات في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، ما قلل من استعداد الجماعات التابعة لها للانخراط بشكل مباشر في دعم الجمهورية الإسلامية في المواجهات المباشرة مع إسرائيل.
ومثّل تعيين لاريجاني في أقوى جهاز أمني في إيران، عودته إلى أعلى مستويات صنع القرار، بعد سنوات من العزلة النسبية. ويُعرف لاريجاني ببراغماته واستعداده أحياناً للانخراط في الدبلوماسية خلف الكواليس، ولا يزال يعمل ضمن المعايير الاستراتيجية التي وضعها المرشد الأعلى، علي خامنئي، والحرس الثوري.
وأظهرت زيارة لاريجاني إلى بغداد كلا الجانبين من شخصيته السياسية، صانع الصفقات الحريص على إبرام الاتفاقيات، والمتشدد المحذر من التعدي الأجنبي، رغم أنه يأمل في أن يؤدي هذا المزيج إلى إنتاج مكاسب أمنية دائمة لإيران.
وتراهن طهران أيضاً على توجيه رسالة إلى أعدائها وحلفائها على حد سواء من خلال الوجهات التي اختارتها لأول رحلة خارجية للاريجاني. وتهدف إلى التأكيد على أن قوات الحشد الشعبي لا تزال ركيزة أساسية في الردع الإقليمي، وأن حزب الله، على الرغم من الضربات التي تعرض لها في الأشهر الأخيرة، لا يزال "جوهرة تاج" شبكات وكلائه ضد إسرائيل.