مسيّرة تستهدف سيارة على طريق بلدة مركبا جنوبي لبنان
استفاق العالم في السابع من أكتوبر 2023 على عملية عسكرية "غير مسبوقة" هزت ثوابت الأمن الإقليمي، وأدخلت الرعب في قلوب الإسرائيليين الذين فقدوا، وللمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، هذا القدر من القتلى والمصابين والرهائن.
العملية التي نفذتها حركة حماس، والتي جاءت بعد فترة من تصاعد التوترات في المسجد الأقصى والضفة الغربية، راجت في وسائل الإعلام باسم "7 أكتوبر"، لكن المناصرين لما يسمى "محور المقاومة" أطلقوا عليها اسم "طوفان الأقصى" ليكون "طوفانا سياسيا وعسكريا وأمنيا"، ومحطة فاصلة في تاريخ الصراع؛ إذ شكلت بداية لحرب لم تقتصر على قطاع غزة فحسب، معقل حماس، بل امتدت لتشمل الإقليم برمته.
ومع حلول الذكرى الثانية لهذا الحدث الاستثنائي، ثمة الكثير من التغييرات التي طرأت على المشهد السياسي والأمني والعسكري في الشرق الأوسط، ذلك أن تل أبيب، وتحت إدارة بنيامين نتنياهو، قرعت طبول الحرب منذ اللحظة الأولى للواقعة، واستلت "سيوفها الحديدية"، الاسم الذي أطلقته على حربها في غزة، ربما كاستعارة من التراث العربي: "السيف أصدق أنباء من الكتب".... وراحت تضرب يمينا وشمالا.
لم يشمل الاستهداف الإسرائيلي غزة فحسب، بل طال الضفة الغربية وجنوب لبنان حيث معاقل حزب الله، والجنوب السوري، وامتد الى اليمن حيث الحوثيين، وخاضت كذلك حرب الإثني عشر يوما ضد إيران، بل تجرأت على مهاجمة الدوحة، في تصعيد خطير، انتهى باعتذار إسرائيلي وضمانات أمريكية، لتغيير خرائط الصراع والتحالفات والتوازنات في الشرق الأوسط خلال سنتين.
إنهاك حماس وحزب الله
يلاحظ خبراء أن الحرب المشتعلة منذ سنتين أفقدت حماس قدرتها العسكرية التي راكمتها لسنوات؛ إذ تعرضت بنيتها التحتية العسكرية لتدمير واسع، شمل نحو 70% من الأنفاق، ومراكز القيادة والسيطرة، فضلا عن اغتيال قادة بارزين في الحركة بينهم يحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنية وغيرهم من قادة الصف الأول على المستويين العسكري والسياسي.
وتفاوض حماس الآن بشأن خطة ترامب التي قد تتحول معها الحركة إلى تنظيم سياسي بحت دون جناح عسكري، ودون أن يكون لها دور في إدارة غزة؛ ما يعني خروجها، بشكل أو بآخر، من معادلة الصراع، بحسب خبراء.
الأمر ذاته ينطبق على حزب الله، الذي تعرض بدوره لاستنزاف عسكري غير مسبوق، بعد غارات إسرائيلية مكثفة دمّرت مراكز القيادة والمستودعات في الجنوب والبقاع.
لكن نقطة التحول الاستراتيجية بالنسبة للحزب اللبناني، المدعوم من إيران، هو اغتيال رمز الحرب وزعيمه حسن نصر الله؛ ما أحدث فراغا قياديا "هائلا" داخل الحزب، الذي يبدو أنه يفتقر إلى "شخصية كارزمية" مثل نصر الله.
السقوط المدوي للأسد
يرى خبراء أن سقوط الأسد جاء كنتيجة غير مباشرة لعملية 7 أكتوبر وما تلتها من تطورات؛ إذ دخلت إيران مرحلة استنزاف سياسي وأمني في محاولة لإنقاذ وكلائها في الأرض المحتلة ولبنان واليمن وحتى الميليشيات العراقية الموالية لها، ناهيك عن انهماكها الدبلوماسي لتسوية ملفها النووي.
ويضيف الخبراء أن هذا الواقع الجديد أربك حسابات طهران التي بدت عاجزة عن حماية حليفها السوري، خصوصا أن مواقع لها "ذات حساسية عالية" في سوريا تعرضت لهجمات إسرائيلية بينها القنصلية الإيرانية في قلب دمشق، لتتحول سوريا، التي احتفظت فيها إيران بنفوذ واسع لعقود، إلى خاصرة رخوة غير قادرة على حماية المصالح الإيرانية.
روسيا، بدورها، راقبت التطورات "الدراماتيكية" عن كثب، لكن أولوياتها تبدلت؛ إذ ركزت على الحرب الأوكرانية، وشرعت في التخلي التدريجي عن حليفها الأوثق الأسد، وفقا لخبراء، رأوا أن موسكو، المثقلة بالعقوبات والضغوط الغربية، باتت على قناعة بأن النظام السوري لم يعد ورقة رابحة، فاكتفت بتقديم اللجوء السياسي للأسد "مكافأة" لخدماته الجليلة، التي قدمها لموسكو، بحسب وصف خبراء، منذ عهد الأب حافظ وحتى سقوط الابن بشار.
ووفقا لخبراء، فإن سقوط نظام الأسدين، الذي دام لأكثر من نصف قرن، شكل انعطافة عميقة ولحظة مفصلية في مسار التحولات في الشرق الأوسط؛ إذ أصبح ما يسمى "محور المقاومة" مجرد تعبير لفظي فحسب، لا سيما مع وصول النظام الجديد إلى دمشق الذي أعلن عن التهدئة على مختلف الجبهات بما في ذلك جبهة إسرائيل، وخاض مفاوضات مع تل أبيب من المنتظر أن تسفر عن اتفاق أمني بين الطرفين، ليكون ذلك بمثابة إعلان عن تموضع سوري استراتيجي جديد منفتح أكثر على الغرب، بدلا من التبعية الطويلة للمعسكر الشرقي.
الحوثيون.. بحثا عن شرعية مفقودة
وجد الحوثيون، المعزولون في صنعاء، في حرب غزة فرصة لتلميع صورتهم "الملطخة"، وإظهار دورهم ضمن ما يسمى "محور المقاومة"، وكسب بعض التعاطف الشعبي، في محيطهم العربي والإقليمي الذي لا يجدون فيه "نصيرا وداعما" سوى إيران، بحسب خبراء.
وقام الحوثيون بـ"عسكرة البحر الأحمر" وشنوا هجمات على السفن المرتبطة بإسرائيل والغرب، وفق زعمهم، بل أطلقوا صواريخ تجاه إسرائيل، غير أن هذه الهجمات "الاستعراضية" في غالبيتها، جلبت لهم ردا عسكريا إسرائيليا وأمريكيا أنهك قدراتهم وأفقدهم السيطرة على بعض المناطق.
وبعد مقتل قيادات ميدانية ومسؤولين بارزين في ظل اشتداد القصف الإسرائيلي والأمريكي على بنيتهم العسكرية، برزت انشقاقات داخل الجناح العسكري والسياسي للحوثيين، وهو ما أربك حساباتهم.
وتشير مصادر إلى أن إيران نفسها، راعية الحوثيين، بدأت في تخفيض دعمها العسكري لهم، خشية التورط في مواجهة مباشرة مع الغرب، وأملا في الحصول على مكاسب بشأن ملفها النووي.
بهذا المعنى، وبحسب خبراء، فإن 7 أكتوبر منح الحوثيين "فرصة مجد قصيرة"، لكنها سرعان ما قوضت دورها العسكري والسياسي، وهي تصارع الآن "مقصوصة الجناح" بحثا عن شرعية مفقودة.
وما يصح بالنسبة لحماس وحزب الله والحوثي يصح كذلك بالنسبة للمليشيات العراقية التي، وإن لم تتورط في الصراع المباشر مع تل أبيب، فإنها فقدت بعضا من قدراتها من حيث حرية الحركة والتصرف والنفوذ الرمزي، فارتدادات الزلزال الشرق أوسطي، وصلت إليها، وهي استوعبت الدرس، كما يرى خبراء.
وبهذا المعنى، فإن التطورات التي أعقبت 7 أكتوبر دفعت المليشيات العراقية إلى أن تكون حذرة في نشاطها العسكري والسياسي؛ ما يؤكد محدودية قدراتها في مواجهة قوى إقليمية ودولية.
ولا ينبغي هنا إغفال دور الحكومة العراقية التي طالبت "المليشيات" على الدوام بـ"النأي" عن النزاعات التي تدور في محيطها، وعدم التورط في مواجهات قد تكلف العراق، الذي أنهكته الحروب، "فواتير باهظة".
تل أبيب وأنقرة.. تفاقم الخصومة
لا مجازفة في القول إن السابع من أكتوبر خلق خصومة بين طرفين إقليميين مؤثرين هما إسرائيل وتركيا، إذ تحولت العلاقة بينهما من دفء متقطع إلى نوع من القطيعة السياسية وسط التراشق الإعلامي والسياسي الحاد.
لم تخف تركيا غضبها، على المستويين الشعبي والرسمي، حيال الحرب الإسرائيلية في غزة، وهو ما أدخل العلاقة بين الطرفين في دوامة من الاتهامات والتصريحات النارية سواء بخصوص غزة وكذلك بشأن سوريا التي تباينت رؤى الطرفين بشأنها، على نحو حاد.
ويرى خبراء أن هذا السياسة التركية نابعة من طموحها في تكريس نفوذها، خصوصا بعد تراجع الدور الإيراني، لكن ذلك لم يرق لإسرائيل التي هاجمت مواقع في سوريا قالت تقارير إن تركيا كانت تعدها لتكون قواعد ومقرات عسكرية لها.
ورغم أن العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وتل أبيب لم تنقطع بالكامل، في أعقاب 7 أكتوبر، لكنها انخفضت إلى مستوى متدن، فيما توقف التعاون الاستخباراتي والعسكري والأمني تقريبا، بينما شهد المستوى السياسي الرسمي تباعدا تمثل في استدعاء السفراء ووقف بعض الاتفاقيات.
ويرجح خبراء أن العلاقة بين تل أبيب وأنقرة ستظل متوترة على المدى المنظور، كما أن الخلاف السياسي سيستمر بشأن القضية الفلسطينية وسوريا، وقضايا خلافية أخرى؛ وهو ما يجعل من هذه العلاقة "المتوترة" عنوانا بارزا في المرحلة المقبلة في منطقة الشرق الأوسط قد تتطور إلى مواجهة مباشرة من نوع ما، إن لم يتم الاتفاق على ترتيبات معينة ترضي الطرفين.
طموح الأقليات
يرى خبراء أن التطورات الإقليمية العميقة في أعقاب 7 أكتوبر أيقظت طموح الأقليات ولا سيما الأكراد والعلويين والطائفة الدرزية في سوريا التي طالبت علنا بالانفصال على لسان شيخها حكمت الهجري.
ويعزو خبراء مثل هذا الطموح إلى الفراغ الأمني الذي أعقب سقوط الأسد الذي أعطى الأقليات مساحة أكبر لإدارة شؤونها.
وما شجع الأقليات على المطالبة بحقوق، حرموا منها طوال عقود الحكم المركزي في دمشق، هو نبرة التصريحات الدولية المشجعة التي تؤكد على دور للأقليات في صنع القرار.
بهذا المعنى ووفقا لخبراء، انبرت إسرائيل للدفاع عن حقوق الطائفة الدرزية بذريعة أن لها امتدادات في إسرائيل وعليها واجب حمايتهم في سوريا، بل شنت غارات استهدفت رموز السيادة في دمشق دفاعا عنهم، كما بررت.
وفي الشمال السوري يدير الأكراد مناطقهم بغطاء أمريكي؛ وهو ما يمنحهم مساحة للمناورة والتفاوض مع دمشق بشأن حقوق يطالبون بها منذ عقود.
ورغم الاتفاق المبرم بين الشرع وعبدي في العاشر من آذار/ مارس الفائت لم تظهر نتائج ملموسة حتى الآن، لكن ذلك يخفف من مطالب الأكراد الذين يتطلعون إلى مشاركة سياسية وحكم لامركزي.
العلويون بدورهم وجدوا في روسيا عونا لهم، وسط محاولات من بعض نخبهم تحفظ لهم خصوصيتهم وتبعدهم عن الإرث الثقيل الذي تركه لهم الأسد المنتمي إلى الطائفة العلوية.
من هنا، فإن 7 أكتوبر وما أعقبه من مستجدات، أوجد بيئة سياسية وأمنية مواتية حفزت الأقليات على إعادة ترتيب مواقعها والسعي إلى مزيد من الاستقلالية.