تعج الساحة السورية اليوم بالفصائل والتنظيمات الإسلامية، التي تكاثرت بعد اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد. حيث شكَّلت سوريا خلال الأعوام الـ14 الماضية "أرضية خصبة للتنظيمات المتشددة"، ومختبرا استثنائيا للإسلام السياسي.
واليوم بعد سقوط النظام، اجتمع المنتصرون، أو معظمهم في "حفل النصر" بقيادة "هيئة تحرير الشام"، وأعلنوا "دفن" نظام الأسد، لكن العديد من المراقبين يعتقدون أن المقبرة لم تغلق أبوابها تماما، حتى لو تأجل موعد الاقتتال تحت تأثير لاعبي الخارج، إلا أن بذرة الشقاق والموت تنمو وتكبر يوما بعد يوم.
بالرغم من الانتشار الواسع للتشكيلات العسكرية الإسلامية المتشددة، فإن الثابت كما يقول مراقبون، هو أن جماعة الإخوان المسلمين تبقى الأقوى حضورا في الساحة السورية.
فالإخوان المسلمون هم التنظيم السياسي الوحيد في سوريا الذي يملك مؤسسة مستمرة منذ أكثر من 9 عقود، ما يجعلها أحد أبرز اللاعبين السياسيين في البلاد.
ويؤكد مراقبون ضرورة "عدم التهوين من موقع الجماعة وقدرتها على التأثير، انطلاقا مما تملكه من خبرات وقدرات مالية خاصة ورصيد تنظيمي بَنَتْه داخل سوريا خلال السنوات الماضية بالإضافة إلى شبكة واسعة، ما سيوفر لها بلا شك أرضية للنشاط، ويجعلها القوة الإسلامية السياسية الأبرز في المدى المنظور.
لكن السلطة الحالية سارعت إلى إصدار قرار بحظر نشاط الجماعة، وذلك بالتزامن مع حظر نشاطاتها في الأردن، وفقا لمصادر خاصة تحدثت لـ "إرم نيوز" أخيراً.
وكشفت مصادر سياسية خاصة عن رفض السلطات السورية الجديدة لطلب قدمه ممثلون عن جماعة "الإخوان المسلمين" السورية للسلطات في دمشق، يقضي بفتح مقار ومكاتب للجماعة في سوريا.
وقال مصدر سوري وآخر عربي، لـ"إرم نيوز"، إن الجماعة طلبت بالفعل فتح مقرات ومكاتب لها في دمشق والمحافظات السورية، لاستعادة نشاطاتها العلنية في البلاد بعد عقود من الحظر الذي فرضه نظام الأسد عليها، لكن رد الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع جاء برفض فتح هذه المقار في الوقت الحالي.
اليوم، تُطرح العديد من التساؤلات عن العلاقة الملتبسة بين "الإخوان" والنظام في دمشق، على خلفية هذا المنع، وأيضا حول العلاقة بين السلطة ذات الخلفية الإسلامية المتشددة الممثلة بهيئة تحرير الشام، وكل التنظيمات والتشكيلات العسكرية الإسلامية الأخرى التي تنشط على الأراضي السورية، وسط أحاديث عن حتمية "التصادم" بين السلطة وهذه التنظيمات المنافسة.
الكاتب والمحلل السياسي السوري، مازن بلال، يرى في تعليق، لـ "إرم نيوز"، أن حظر نشاط الإخوان المسلمين في سوريا، جاء تماشيا مع الحظر في الأردن، وكي لا تصبح سوريا قاعدة بديلة لهم، لكن المشكلة وفقا لبلال، هي هوية الدولة السورية الحالية، والتي تجعلها بيئة خصبة لظهور تيارات سياسية دينية بأسماء جديدة دون أن يعني هذا تغير الجوهر للتنظيم المحظور.
ويضيف أن "ظهور خلافات بين التشكيلات الدينية وحتى مع حظر جماعة الإخوان المسلمين غير وارد، فالاحتمال الأقوى هو تصادم الفصائل الحالية فيما بينها إذا انتهى مبرر وجودها، نتيجة توجه جديد للرئيس المؤقت أحمد الشرع.
ويشير الكاتب السوري إلى أن "الحالة الفصائلية تجعل من سوريا جغرافية لحرب مؤجلة، وفي نفس الوقت تعيق ظهور بيئة سياسية قادرة على لجم الصراعات، فالمشهد السوري يظهر حالة من "إدارة التوحش" وليس بنية سياسية متماسكة.
من جهته، يرى الخبير في الجماعات الإسلامية، عبدالله علي، أنه "من المبكر الحديث عن صدام بين سلطة الشرع والتنظيمات الإسلامية الأخرى، على الأقل ليس بهذه السرعة"، مشيرا إلى أن "المرحلة حاليا هي مرحلة يمكن تسميتها (تقاسم الكعكة)، حيث يتم إعطاء كل فصيل حصة أو منصبا حسب التوجهات أو النفوذ. وهذا يختلف حسب قوة الفصيل وانتمائه وارتباطه الخارجي، كما يقول.
واعتبر علي أن الأمور لن تصل إلى نقطة الصدام، إلا بإيعاز خارجي، وبما أننا نرى اليوم احتواء عربيا للوضع القائم، فمن المستبعد حدوث صدام حاليا.
ويقدم الخبير السوري مثالا عن كتلة التركمان العسكرية، ويلاحظ أنه بالرغم من قلة أعداد هؤلاء، إلا أنهم حصلوا على مناصب مهمة، وعلى رأسهم فهيم عيسى الذي تم تعيينه نائبا أول لوزير الدفاع، وقائدا للمنطقة الشمالية، و"نحن نعرف أن المنطقة الشمالية تعني تركيا بشكل أو بآخر سياسيا واقتصاديا" وفق تعبيره.
أما "جيش الإسلام" فكان من الفصائل المتباطئة بالانضمام إلى وزارة الدفاع، ولذلك تمت أخيرا تسمية قيادات منه في الفرقة السابعة (رئيس أركان وقادة ألوية في الفرقة السابعة).
ويلفت إلى أن "جيش الإسلام" لم يأخذ حصته كما يجب أن تكون، مثلا ليس لديه قائد فرقة مع أنه قوي وتعداده كبير ومنطقته استراتيجية (ريف دمشق)، ولكن لديه رئيس أركان فرقة هو علي عبد الباقي، وقد كان أحد نواب زهران علوش.
ويتحدث الخبير المتخصص بالجماعات الإسلامية عن طبيعة العلاقة بين السلطة الحالية بقيادة "هيئة تحرير الشام" و"الإخوان المسلمين" والتشكيلات التي تدور في فلكهم قائلا إن "العلاقة بين الإخوان المسلمين وهيئة تحرير الشام، لم تكن جيدة "تاريخيا"، فالشرع "الجولاني سابقا" كزعيم جهادي، كان على النقيض من الإخوان المسلمين، من الناحية العقائدية ومن الناحية السياسية، ومن كل النواحي، وكان بينهم خلافات وصراعات مريرة.
ويقدم الخبير مثالا عن حلب خلال فترة الثورة، حين كان "لواء التوحيد" بقيادة عبدالقادر صالح (المحسوب على الإخوان)، يسيطر على المدينة، فجاء تنظيم "داعش" ومن ثم "جبهة النصرة" التي أصبحت فيما بعد "هيئة تحرير الشام"، وحاربت هؤلاء، أي أنه كان تاريخيا بينهم خلافات، كما يقول.
ويضيف: "كمواقف جديدة، حضر زعيم الإخوان المسلمين عامر البوسلامة، مؤتمر الحوار السوري، ولكن بصفته الشخصية وليس بصفة حزبية، مشيرا إلى أن "الإخوان رحبوا بسقوط نظام الأسد وبتولي الإدارة الجديدة، ويشجعون بالبيانات على بناء الدولة، لكن هناك امتعاض أو استياء داخلياً من استبعاد كوادرهم من الصفوف الأولى للحكم".
ويلفت الكاتب السوري إلى أن موضوع "الإخوان" والسلطة الحالية في دمشق معقد، مشيرا إلى اعتماد الإدارة السورية بعض التعيينات للإخوان، ولكن في الصفوف الثانية والثالثة.
ويوضح الكاتب أن محمد الغريب، أو "الشيخ أبو أسيد" المعين حديثا قائدا لفرقة إدلب العسكرية، هو قيادي في "فيلق الشام"، وهذا التنظيم كان معروفا دائما بأنه قريب من جماعة الإخوان أو يحمل أجندة الإخوان، ولا سيما أن أبرز داعميه هما (هيثم رحمة ومنذر سراس)، وهما معروفان بانتمائهما للإخوان.
وأشار كذلك إلى تعيين محافظ حلب عزام غريب من "الجبهة الشامية" وهي التي ورثت "لواء التوحيد"، وهو كـ"فيلق الشام"، يدور في فلك الفكر الإخواني.
وفي المحصلة، يقول الخبير في الجماعات الإسلامية، إنه على الرغم من حل جماعة الإخوان في سوريا وغياب النشاطات الرسمية للتنظيم، إلا أن التحالف مع تركيا وقطر يفرض نوعا من التوازن في التعامل مع كوادرها أو الدائرين في فلكها. وبالتالي، يتسلل الإخوان المسلمون إلى المناصب من الدرجة الثانية والثالثة أو الوسطى، وفق تعبيره.
من جهة أخرى، يلفت الكاتب السوري إلى أن عدد التنظيمات الإسلامية في سوريا كبير، ومرجعياتها وانتماءاتها متشابكة، فهناك التيار السلفي الجهادي، وهو ما تعبر عنه "داعش" و"جبهة النصرة" وتنظيم القاعدة، وأيضا هناك "حراس الدين" الذي حل نفسه، وهؤلاء جميعا سلفيون جهاديون يتبنون فكرة الجهاد حتى يوم القيامة، وإنشاء دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية.
وفي المقابل، هناك تيارات مثل "السلفية العلمية"، وتاريخيا هذا التيار يهتم بالعلم دون أن يهتم بالسياسة. وهذا التيار يضم مثلا "جيش الإسلام"، ولكنه مر بمنعطفات معينة أجاز فيها حمل السلاح والجهاد، ومن ثم تصبح الفروق بينه وبين التيار السلفي الجهادي غير واضحة تماما، ولكنهم بالأساس مختلفان حتى عقائديا.
ويشرح علي بأن "جيش الإسلام وجبهة النصرة أو داعش، لم تكن على توافق أبدا، بل بالعكس؛ شهدت العلاقة بينها صراعات قوية جدا، سواء في الغوطة أو حتى في حلب أو غيرها. وكانت أينما تجاورت تحصل صراعات بينها، حتى إن "شرعي جيش الإسلام" أبو عبد الرحمن كعكي هو أول من انتقد "الجولاني" علنا في عام 2012، عندما قال عنه إنه "شاب متمايع يرتدي الجينز".
ويلفت الكاتب عبدالله علي أيضا إلى وجود عشرات الفصائل التي انضوى بعضها في إطار وزارة الدفاع وبعضها الآخر لم ينضو. وأغلب هذه الفصائل ميالة للفكر الإخواني على حد تعبيره، مثل "غرفة عمليات فتح دمشق" وزعيمها أنس الصلخدي وأيضا المجلس العسكري في الجنوب السوري (القنيطرة).
يعتقد عبدالله علي أن الصدام المرشح للحدوث سيكون في المدى المنظور، بين السلطة الحالية وكتلة عسكرية خارجة من وزارة الدفاع، هي "بركان الفرات" وليس المقصود به التشكيل التابع لـ"قسد"، وإنما تنظيم آخر تم اعتقال قائده في منطقة القدم بدمشق في وقت سابق، وهذا التنظيم أعلن في بياناته أنه ضد الشرع وضد الحكم، ويطالب بتحرير شرق الفرات من الأكراد، ويتهم الشرع بأنه خذل العرب في منطقة الجزيرة؛ لأنه "أوقف التحرير عند دمشق ولم يكمل تحرير المحافظات الشرقية".
الكاتب المتخصص في الجماعات المتشددة يرى أن "بذور الصدام والاقتتال موجودة" أيضا ضمن الفصائل التي تشكل وزارة الدفاع الحالية، فالكل يرى ويعرف حالة عدم التجانس بين الفصائل المنضوية في الوزارة، وظهر ذلك جليا في أثناء مجازر الساحل، حين خرجت الأصوات التي تتحدث عن "فصائل منفلتة" ولكن دون أن يوضحوا من هي هذه الفصائل المنفلتة، والآن يتكرر الأمر مع الدروز، والأكيد أن هذه الفصائل ستخلق إشكاليات وتتسبب بالاقتتالات الداخلية.