شهد الخطاب السياسي للميليشيات العراقية الحليفة لإيران تحوّلاً لافتاً خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، تمثّل في صدور مواقف علنية ومتزامنة تدعو إلى حصر السلاح بيد الدولة، بعد سنوات طويلة من الرفض القاطع لأي نقاش يمس هذا الملف.
وهذا التحول، الذي خرج إلى العلن عبر قيادات بارزة في الميليشيات وتحالف الإطار التنسيقي، قوبل بقراءة واسعة باعتباره انعكاساً لضغوط أمريكية ودولية متصاعدة، ومحاولة لإعادة التموضع السياسي مع اقتراب استحقاقات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
وكشف مسؤول عراقي عن أن "تحركات الفصائل المسلحة جاءت عقب سلسلة حوارات معمقة داخل تحالف الإطار التنسيقي، أفضت إلى توافق أولي على مسار تدريجي لمعالجة ملف السلاح، يبدأ بالفصائل الأبعد عن مراكز القرار، قبل الانتقال لاحقاً إلى الفصائل ذات الثقل الأكبر داخل المشهد العراقي، ومنها كتائب حزب الله وحركة النجباء".
وأوضح المسؤول الذي طلب حجب اسمه لـ"إرم نيوز" أن هذا المسار حظي باستجابة ملموسة من عدد من قادة الفصائل، مقابل تطمينات سياسية وأمنية تتعلق بضمان وجودهم ضمن العملية السياسية، إلى جانب البحث عن آليات لتنظيم حل بعض التشكيلات ودمج أخرى ضمن هيئة الحشد الشعبي، وفق صيغ قانونية متفق عليها".
وبيّن أن "إدارة هذا الملف تجري ضمن أطر داخلية بعيدة عن الضغوط العلنية، وتتولاها جهات نافذة داخل المنظومة السياسية والأمنية".
وأشار إلى أن مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي هو المنسق العام لهذا الملف".
وكانت البداية من بيان لزعيم ميليشيا “كتائب الإمام علي” شبل الزيدي، الذي شدد على تعزيز العمل المؤسسي واحترام السلطات الدستورية والتشريعية، والعمل ضمن الأطر القانونية والأعراف الوطنية، مع تأكيده أن وحدة الدولة وسيادتها تقتضيان حصر السلاح بيد المؤسسات الرسمية.
ولم تمر ساعات قليلة حتى تتابعت مواقف مشابهة، فقد أكد زعيم تيار الحكمة الوطني عمار الحكيم أن السلاح ينبغي أن يكون بيد الدولة، داعياً إلى الإسراع بتشكيل الحكومة، ومشدداً على رفض استخدام السلاح أداة للضغط في العملية السياسية، وعلى ضرورة تطبيق القانون بإرادة عراقية وطنية.
كما أعلن زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي دعمه لحصر السلاح بيد الدولة وتنفيذ مطلب الحكومة، فيما انضمت ميليشيا “أنصار الله الأوفياء” إلى هذا المسار، مؤكدة أن التمثيل السياسي الواسع يفرض مسؤولية وطنية مباشرة تقتضي توحيد القرار الأمني وتعزيز هيبة الدولة، كل هذا لحقه أخيراً رفض "حزب الله" العراقي كذلك لدعوات حصر السلاح بيد الدولة.
وهذه المواقف المتلاحقة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية، ولا سيما أنها تصدر عن أطراف كانت حتى وقت قريب تعارض بشدة أي حديث عن حصر السلاح بيد الدولة، وتعتبره مساساً بما تصفه بـ“سلاح المقاومة”.
ويرى مختصون أن هذا التحول لا ينفصل عن حسابات سياسية فرضتها موازين القوى الجديدة، إذ تسعى القوى الفصائلية التي حققت ثقلاً برلمانياً كبيراً إلى ترجمة هذا الحضور بمكاسب تنفيذية ومواقع سيادية داخل الحكومة المقبلة، في ظل تحفظات أمريكية ودولية واضحة على مشاركة الميليشيات العراقية المسلحة في السلطة التنفيذية.
وشهدت الأسابيع الأخيرة تصعيداً ملحوظاً في مستوى الضغوط الأمريكية الموجهة إلى بغداد، تمثل في رسائل سياسية ودبلوماسية مباشرة وغير مباشرة، ركزت بشكل أساسي على ملف السلاح خارج إطار الدولة، وطبيعة مشاركة الميليشيات المسلحة في الحكومة العراقية المقبلة.
وهذه الضغوط تزامنت مع مرحلة مهمة من مفاوضات تشكيل السلطة، ما عكس رغبة أمريكية واضحة في التأثير على شكل الحكومة قبل استقرار التوازنات النهائية داخل البرلمان، ومنع تشكل سلطة تنفيذية ينظر إليها على أنها خاضعة لنفوذ قوى السلاح.
وبرز دور المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي إلى العراق مارك سافايا، الذي كثف خلال الفترة الماضية تصريحاته ولقاءاته مع قيادات عراقية سياسية.
وأعاد سافايا في أكثر من مناسبة تعريف شروط “الشرعية السياسية” للحكومة المقبلة، واضعاً مسألة حصر السلاح بيد الدولة وإنهاء ازدواج القرار السيادي في صدارة هذه الشروط، مع تأكيده أن أي حكومة لا تملك السيطرة الكاملة على المنظومة الأمنية ستكون عرضة لعزلة سياسية وضغوط اقتصادية متزايدة.
بدوره، رأى الباحث والأكاديمي خالد الغريباوي أن "التحول في خطاب الفصائل المسلحة يمكن قراءته ضمن منطق التكيف الاستراتيجي تحت الضغط".
وأوضح أن "الفواعل غير الدولتية تسعى في مثل هذه اللحظات إلى الحفاظ على نفوذها عبر تعديل الأدوات والخطاب، لا عبر التفكيك الذاتي أو التخلّي الكامل عن عناصر القوة التي تمتلكها".
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن "الفصائل، بوصفها فواعل هجينة تجمع بين العمل العسكري والحضور السياسي، تدرك أن استمرارها بات مشروطاً بالاندماج الشكلي في منظومة الدولة، بما ينسجم مع المتغيرات الدولية والإقليمية، من دون التفريط الكامل بالأوراق التي راكمتها خلال السنوات الماضية".