لا يختلف اثنان على أن قرار ترامب رفع العقوبات المفروضة على سوريا كان "تاريخيا" بكل معنى الكلمة.
لكن الخلاف والتباين حول ما يعنيه المصطلح واقعيا بلغ أشده اليوم في النقاشات التي تشهدها سوريا وأمريكا في الوقت نفسه.
فهل ما حصل بعد وعد ترامب هو "رفع العقوبات" أم تخفيفها؟
يعتمد من يصفون أنفسهم من المراقبين والخبراء السوريين بـ"الواقعيين" على تصريحات المسؤولين الأمريكيين أنفسهم قبل كل شيء، حول معنى قرار ترامب وحدوده، كالتصريح الذي أدلى به المتحدث باسم الخارجية الأمريكية صامويل ويربرغ عندما قال: "إن رفع العقوبات سيكون تدريجيا وسيخضع لإجراءات قانونية وإدارية متعددة، وبعض العقوبات تتطلب موافقة الكونغرس لرفعها".
وهذا حسب المراقبين "كلام واضح لا لبس فيه بأن الحديث عن رفع كامل للعقوبات سابق لأوانه، ويمر بالكثير من المسارات المعقدة قبل تحقيقه".
المتحدث الأمريكي ذكّر بشروط واشنطن من جديد، عندما قال إن "المطلوب من الإدارة السورية الجديدة تشكيل حكومة تمثل جميع السوريين بغض النظر عن الدين أو العرق، حكومة تتصرف بمسؤولية ولا تشكل خطرا على جيرانها، وقادرة على ممارسة السيطرة على كامل الأراضي السورية لضمان الأمن والاستقرار، من خلال التخلص من المقاتلين الأجانب الذين يؤججون العنف والطائفية".
وأكد ويربرغ أن "هناك خطوات عديدة قبل الوصول إلى التطبيع مع حكومة الشرع، وأن تقييم الحكومة سيتم بناءً على أفعالها وليس أقوالها".
في هذا السياق، يرى الباحث والكاتب السياسي السوري مالك الحافظ أن ما حدث أخيرا لا يمكن وصفه قانونياً أو سياسياً بأنه "رفع كامل للعقوبات"، بل تخفيف منضبط في بعض البنود، الذي يندرج ضمن صلاحيات الإدارة الأمريكية التنفيذية.
وأشار إلى أن الفرق الجوهري بين الرفع الكامل والتخفيف يكمن في طبيعة الأداة القانونية المستخدمة وفي الأثر المترتب على الأرض.
وقال الحافظ، في تصريحات لـ "إرم نيوز"، إن "الرفع الكامل للعقوبات يتطلب إلغاء أو تعديل القوانين الصادرة عن الكونغرس، مثل قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا لعام 2019"، الذي يُعد من العقوبات التشريعية الصارمة ولا يمكن للرئيس إلغاؤه بموجب صلاحياته التنفيذية فقط.
وتابع: "أما التخفيف، فيحصل عبر استثناء أو تجميد مؤقت تُقرّه وزارة الخزانة الأمريكية أو بقرار إداري من البيت الأبيض، عادة ما يكون مرتبطاً بالاحتياجات الإنسانية أو ببعض المصالح الدبلوماسية الظرفية، من دون المساس بجوهر نظام العقوبات نفسه".
ويوضح الباحث والكاتب السياسي السوري أن "العقوبات المفروضة على سوريا تتوزع بين نوعين رئيسين: الأول عقوبات تنفيذية، وهي التي تصدر بأوامر من الرئيس الأمريكي أو من وزارة الخزانة، ويمكن تعديلها أو تجميدها بشكل مباشر بقرار إداري".
ومن أبرز هذه الأوامر، القرار التنفيذي رقم 13582 الصادر عام 2011، والذي جمّد أصول الحكومة السورية.
أما النوع الثاني، وفقا للحافظ، فهو العقوبات التشريعية، وهي الأخطر والأكثر صرامة؛ لأنها صادرة عن الكونغرس الأمريكي وتتطلب قانوناً جديداً لإلغائها أو تعديلها.
ومن أبرز هذه القوانين "قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية" لعام 2003، وقانون "قيصر" لعام 2019، الذي فرض عقوبات مشددة على كل من يتعامل مع الحكومة السورية في قطاعات الطاقة والبناء والهندسة والمصارف، ويُلزم الإدارة الأمريكية بتقديم تقارير دورية عن مدى التزام الأطراف الدولية بهذه العقوبات.
ويؤكد الحافظ أن "هذه العقوبات التشريعية لا يمكن رفعها بقرار رئاسي، بل تحتاج إلى توافق سياسي داخل الكونغرس، مروراً بلجان متخصصة، وتوافر ظروف سياسية ودبلوماسية".
ويشير الحافظ إلى أن "التخفيف بحد ذاته لا يغيّر من واقع الاقتصاد السوري المنهك، ولا يطلق عجلة الإعمار أو الاستثمار، وأي أثر قد يظهر ولو بشكل محدود على الاقتصاد السوري سيحتاج لستة أشهر إلى عام، مع العلم أن تجميد بعض العقوبات غير واضح المدة سواء إن كانت واشنطن قد تحدده فقط لمدة ستة أشهر أو لعام، ثم إما يجدد التجميد أو يتم التراجع عنه".
ويقرأ الحافظ الأمر على أن "التخفيف بالعموم يقدّم هامشاً صغيراً من التنفس لبعض القطاعات الخدمية والمصرفية بشكل أساسي، وكذلك الإنسانية، ويفتح الباب ولو بشكل محدود أمام الاستثمار في قطاع الطاقة.
ورأى أن ذلك "يمكن أن يشجع بعض المنظمات والشركات على التوسّع في نشاطها داخل سوريا، أو يسمح بإدخال بعض المواد التي كانت عرضة للتأخير أو الرفض، لكنه لا يطال البنية التحتية للعقوبات، وقد لا يمس تجميد الأصول، أو منع التبادل التكنولوجي مع المؤسسات السورية".
وخلص الحافظ إلى أن "التأثير الاقتصادي للتخفيف يظل محدوداً، وغالباً ما يكون رمزياً أكثر منه فعلياً".
وحول اللغط والتباين الحاصل في قراءة قرار ترامب، يعتقد الكاتب السياسي السوري بأنه "التباس متعمد في الخطاب الرسمي لبعض الأطراف، وهو ينبع أيضا من رغبة سياسية في تصوير أي تغيير بسيط على أنه إنجاز كبير".
في السياق السوري، وفقا للمحلل السياسي الحافظ، تستخدم السلطة الانتقالية هذا النوع من الإجراءات المؤقتة لتغذية سردية بأنها باتت تحظى باعتراف دولي أو بدأت تحقّق اختراقات دبلوماسية.
ويبدو أن غياب التوضيح الإعلامي المتخصص أدى إلى تكريس هذا الفهم الخاطئ، إضافة إلى توقيت القرار الذي جاء في لحظة تحاول فيها السلطة ترميم صورتها وسط تشكيك داخلي متزايد.
و"بالتالي، يجري تضخيم الأثر وكأنّ العقوبات رُفعت فعلاً بشكل كامل، بينما الحقيقة أن ما جرى لا يتعدى كونه تخفيفاً جزئياً ومحدوداً في ملف معقّد ومتعدد الطبقات"، وفقا للكاتب السياسي السوري مالك الحافظ.
من جهتها، تقرأ الباحثة الاقتصادية السورية رشا سيروب وعد ترامب بشكل مشابه، فتقول: "على ما يبدو سيقتصر تنفيذ وعود ترامب بإصدار التصاريح فقط، لأن رفع العقوبات يتطلب موافقة الكونغرس، والتصريح يعني تعليقا مؤقتا للعقوبات لمدة لا تتجاوز 180 يوما (قابلة للتجديد)".
وقالت سيروب لـ"إرم نيوز" إن "التصاريح الجديدة ستتضمن السماح بالقيام باستثمارات جديدة والتي كانت من المحظورات وفق التصريح السابق رقم GL24".
لكنها رغم ذلك، تذكّر بأن الكونغرس "هو السلطة التشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الدول المتقدمة أو التي تسعى إلى أن تكون دولة مؤسسات، لا يوجد شيء اسمه الرئيس يقرر وسُلطات الدولة تنفذ".
وترجح سيروب أن يبدأ العمل الآن، "ريثما يصدر التطبيق الفعلي لرفع العقوبات"، على اتخاذ قرار بتحويل عوائد الأصول المجمدة (المنقولة وغير المنقولة) للأفراد والكيانات التي كانت داعمة لنظام الأسد إلى سوريا.
وتكشف عن وجود عشرات مليارات الدولارات في خزائن ومصارف وأراضي الدول التي فرضت العقوبات على سوريا، والدول التي سعت إلى رفع العقوبات.