منذ أسبوعين، تشهد مناطق جنوب ووسط اليمن تحولات ميدانية متسارعة على وقع عملية "المستقبل الواعد".
وبينما تعمل القوات الجنوبية على تثبيت انتشارها وتعزيز السيطرة الأمنية في أكثر من محور، بدأت مؤشرات تحشيد حوثي تظهر في محيط بعض الجبهات، بالتوازي مع نشاط متجدد لتنظيم القاعدة ومحاولات تحرك لعناصر مرتبطة بتنظيم الإخوان المسلمين في مناطق عُرفت سابقًا بهشاشتها الأمنية.
هذا المشهد المتداخل وضع العملية في صدارة الفعل الميداني، بوصفها مسارًا يسعى إلى ضبط الأرض ومنع إعادة إنتاج الفوضى، في مرحلة تُقاس فيها النتائج بما يتحقق فعليًا على الأرض.
وكشف مصدر سياسي يمني مطّلع، لـ"إرم نيوز"، أن التطورات الميدانية خلال الأيام الأخيرة تؤكد أن عملية "المستقبل الواعد" دخلت مرحلة أكثر حساسية، حيث باتت تتقاطع مع تحركات متعددة الأطراف، في مقدمتها ميليشيا الحوثي، وتنظيم القاعدة، إضافة إلى تنظيم الإخوان المسلمين عبر أذرعه السياسية والعسكرية في عدد من المناطق.
وأضاف المصدر أن التحشيد الحوثي الجاري في أكثر من محور، خصوصًا على تخوم شبوة وأبين والبيضاء، لا يمكن فصله عن واقع أن القوات الجنوبية استطاعت خلال الأسبوعين الماضيين تثبيت انتشارها ومنع أي اختراقات مؤثرة، ما خلق حالة ضغط حقيقي على الميليشيا الحوثية، وأجبرها على إعادة ترتيب أولوياتها.
وأوضح أن تنظيم القاعدة ما زال يحاول استثمار أي فراغ أمني في مناطق معروفة بنشاطه السابق، مثل أجزاء من أبين وشبوة وأطراف البيضاء، مشيرًا إلى أن "التنظيم يتحرك كلما شعر بأن السيطرة الأمنية غير مكتملة، لكنه يواجه اليوم واقعًا مختلفًا مع توسع الانتشار الجنوبي وتشديد الرقابة على الطرق والمناطق المفتوحة".
وتابع المصدر أن تنظيم الإخوان المسلمين، وخصوصًا عبر شبكاته المرتبطة بحزب الإصلاح، يتمركز سياسيًا وعسكريًا في بعض مناطق مأرب وأجزاء من شبوة ووادي حضرموت، لافتًا إلى أن "الإشكالية تكمن في طبيعة الدور الذي اعتاد على إدارة الصراع بدل حسمه، ما كان له أثر مباشر في إطالة أمد الفوضى وفتح مساحات غير مباشرة أمام تنظيمات متطرفة".
وأشار إلى أن ما يميز المرحلة الحالية هو وضوح القرار الميداني لدى القوات الجنوبية في التعامل مع هذه التحديات، موضحًا أن "العمل يجري على أساس منع تداخل الجبهات، وتفكيك أي بيئة حاضنة للفوضى، سواء كانت عسكرية أو سياسية، لأن ترك هذه البيئات مفتوحة كان أحد أخطر أخطاء المراحل السابقة".
وأضاف المصدر أن التعامل مع تنظيم القاعدة يتم بوصفه تهديدًا أمنيًا مباشرًا لا يحتمل المساومة، في حين يُنظر إلى تنظيم الإخوان كعامل إرباك سياسي - أمني يستفيد من المناطق الهشة ومن ضعف القرار الموحد، مؤكدًا أن "هذا التمييز في القراءة يعكس فهمًا واقعيًا لطبيعة كل تهديد".
وختم بالقول إن الجنوب يقف اليوم أمام لحظة اختبار حقيقية، حيث لم تعد المعركة محصورة في مواجهة الحوثيين فقط، بل في منع تشكل شبكة تهديدات متداخلة، تضم القاعدة وتنظيم الإخوان، مستفيدين من أي تراجع أو تردد، معتبرًا أن "تثبيت الأمن على الأرض هو الرد العملي الوحيد على هذه التهديدات مجتمعة".
من جانبه، قال مصدر دبلوماسي إقليمي متابع للملف اليمني إن التطورات الأخيرة على الأرض تؤكد أن الخطر الحقيقي في هذه المرحلة يتمثل في استمرار سلوك الميليشيا الحوثية كفاعل عسكري خارج أي منطق تسوية، مضيفًا أن "الحوثيين يراكمون القوة كلما توفر لهم فراغ أمني أو انقسام سياسي، ويستخدمون ذلك لتعطيل أي مسار استقرار حقيقي".
وأضاف المصدر أن حركة الإصلاح لم تُظهر خلال السنوات الماضية قدرة على لعب دور جامع أو حاسم، معتبرًا أن "ازدواجية الخطاب السياسي مع الارتباك الميداني أسهمت في إطالة أمد الصراع، وخلقت مساحات استُثمرت من أطراف أكثر تطرفًا"، في إشارة إلى تداخل الأدوار في بعض مناطق الوسط والجنوب.
وأوضح أن ما يجري حاليًا على الأرض يفرض مقاربة واقعية تقوم على دعم القوى القادرة على ضبط المناطق ومنع تحولها إلى منصات تهديد، مشيرًا إلى أن "أي فاعل محلي ينجح في تقليص الفراغات الأمنية وفرض حد أدنى من الاستقرار، يُسهم عمليًا في حماية المسار الإقليمي الأوسع، بغض النظر عن السجالات السياسية القائمة".
وتابع المصدر بأن التجارب السابقة أظهرت أن تجاهل البعد الأمني، أو الرهان على قوى تدير الصراع بدل احتوائه، كان مكلفًا على المستويين اليمني والإقليمي، مؤكدًا أن "الأولوية اليوم يجب أن تكون لمنع تمدد الحوثيين والتنظيمات المتطرفة".
وشدد المصدر على أن "الاستقرار يُصنع بوجود قوى قادرة على فرضه على الأرض، ومنع استخدام الجغرافيا اليمنية كورقة ضغط أو تهديد عابر للحدود".
في حين يرى الباحث الأمريكي المتخصص في شؤون الأمن الإقليمي وديناميكيات النزاعات في الدول الهشة، مايكل هارينغتون، أن المقاربة التي تعتمدها القوات الانتقالية الجنوبية تعبر عن انتقال عملي من منطق "إدارة الفوضى" إلى منطق "تحييد مصادرها".
واعتبر هارينغتون، خلال حديثه لـ"إرم نيوز"، أن أهم ما يميز هذا المسار هو القدرة على فرض نمط متماسك من الضبط الأمني في جغرافيا طالما كانت مفتوحة على الاختراق.
ويشير إلى أن التجارب المقارنة في نزاعات مشابهة تُظهر أن القوى المحلية التي تمتلك معرفة دقيقة بالمجتمع وبشبكات النفوذ غير الرسمية تكون أكثر قدرة على تقليص المساحات الهشة، حتى في غياب تسويات شاملة.
ويضيف أن قراءة التحركات الجنوبية يجب أن تنطلق من سؤال الوظيفة، موضحًا أن "القوة التي تمنع تحول الأرض إلى منصة تهديد عابر للحدود تؤدي عمليًا وظيفة استقرار، حتى لو ظل الإطار السياسي موضع جدل".
ومن هذا المنظور، يرى هارينغتون أن الحفاظ على الزخم العملياتي مع تجنب الاستنزاف المفتوح يمثل اختبارًا حقيقيًا لنضج هذا المسار، لا سيما في ظل خصوم يستثمرون في الفوضى أكثر مما يستثمرون في الحسم.
من جهتها، تذهب الباحثة الفرنسية، صوفي لامبرت، إلى أن الحوثيين وحركة الإصلاح، رغم اختلاف أدواتهما وخطابهما، يشتركان في نمط سلوكي واحد يقوم على إدامة الصراع بدل إنهائه.
وترى لامبرت، في حديث لـ"إرم نيوز"، أن الحوثيين يقدمون نموذجًا كلاسيكيًا لحركة مسلحة تستخدم التفاوض والتصعيد كوسيلتين متبادلتين لتوسيع النفوذ، وليس كمسار نحو تسوية، معتبرة أن كل جولة تهدئة تُستثمر لإعادة التموضع لا لتخفيف حدة النزاع.
في المقابل، تنتقد لامبرت حركة الإصلاح بوصفها فاعلًا سياسيًا عالقًا بين منطق الدولة ومنطق التنظيم، مشيرة إلى أن هذا التذبذب أفرز عجزًا مزمنًا عن إنتاج موقف أمني واضح، وأسهم في خلق فراغات استُغلت لاحقًا من قبل جماعات أكثر تطرفًا.
وتؤكد أن "الخطر يكمن في القوى التي تُبقي الصراع في حالة سيولة دائمة"، معتبرة أن أي مسار لا يواجه هذا النمط البنيوي سيظل عاجزًا عن كسر الحلقة المفرغة للنزاع.