رأى مختصون في الشأن العراقي، أن الحرب الإيرانية - الإسرائيلية الأخيرة، وما تبعها من تداعيات إقليمية، أسهمت في تعميق عزلة الميليشيات المسلحة داخل العراق، بعد تصاعد خطاب وطني داخلي يطالب بحصر السلاح بيد الدولة.
وشهدت الساحة العراقية في الأسابيع الماضية مواقف واضحة من مرجعيات دينية، وتيارات شعبية، إضافة إلى شخصيات أكاديمية ونخب وطنية، شددت على ضرورة استعادة سيادة الدولة العراقية، ورفض جعلها ساحة للصراع بين المحاور الإقليمية.
السيستاني والصدر
وتُعد دعوة المرجع الديني في النجف آية الله علي السيستاني، واحدة من أقوى الإشارات التي وُجهت ضد فوضى السلاح منذ سنوات، إذ قال ممثل المرجع الأعلى، في خطبة الجمعة الأخيرة من حزيران، إن "العراق ليس بمنأى عن تداعيات الصراع الإقليمي، وعلى العراقيين أن يتسلحوا بالوعي، ويعملوا على تصحيح المسار وبناء الدولة"، داعيًا بشكل صريح إلى "حصر السلاح بيد الدولة ومنع التدخلات الخارجية".
وبعد أيام، أصدر زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بيانًا شديد اللهجة، أكد فيه أن "الحق لا يُقام إلا بتسليم السلاح المنفلت وحل الميليشيات، وتعزيز قوة الجيش والشرطة، واستقلال العراق عن أي تبعية"، مضيفًا أن "الفساد والسلاح والتجسس والانتماء الخارجي هم أكبر مهددات لوحدة البلاد".
ضربة للمعنويات
بدوره، قال الخبير في الشأن الأمني عبد الغني الغضبان إن "حرب الاثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل لم تُضعف طهران فحسب، بل أثّرت بشكل مباشر على المعنويات والإمدادات التي كانت تصل للفصائل المسلحة داخل العراق، وأسهمت في تفكيك ما يُسمى بمحور المقاومة".
وأضاف الغضبان لـ"إرم نيوز"، أن "العراق بات هو الحلقة الوحيدة المتبقية في هذا المحور، بعدما تقطعت أوصاله (المحور) من سوريا إلى لبنان وغزة، وهذه الحقيقة تفسّر الصوت العالي الذي ترفعه بعض الفصائل اليوم للتغطية على تراجعها، فيما برز خطاب عراقي داخلي يدعو للإصلاح وإنهاء هذه الحالة الشاذة".
وجاءت هذه المواقف بعد تصاعد وتيرة الهجمات بالطائرات المسيّرة داخل العراق، والتي استهدفت مواقع عسكرية ومدنية، ما دفع جهات سياسية وشعبية للمطالبة بإخراج الفصائل من المدن، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات المقبلة، وتخوّف قطاعات واسعة من تأثير السلاح على إرادة الناخبين.
في المقابل، ردت فصائل بارزة مثل كتائب حزب الله ببيانات نارية رافضة لتسليم السلاح، ووصفت المطالبين بذلك بالخونة والمتخاذلين، مؤكدة أن "سلاح المقاومة لا يُسلّم إلا بيد الإمام المهدي"، بحسب ما ورد في بيان أبو علي العسكري، المسؤول الأمني لكتائب حزب الله.
خطاب الدولة ضد خطاب الميليشيات
وتُظهر هذه المواقف تصاعد التباين بين خطاب الدولة وخطاب الميليشيات، في وقت تواجه فيه الحكومة العراقية تحديات كبيرة، من بينها الضغوط الأمريكية بشأن رواتب الحشد الشعبي، ومخاوف داخلية من العقوبات المرتقبة، خصوصًا بعد كشف صفقات تهريب نفط إيراني بأوراق عراقية.
من جهته، قال الباحث في الشأن السياسي عبد الله الركابي إن "الاصطفاف الشعبي والديني بعد الحرب الإيرانية الإسرائيلية يعبّر عن لحظة وعي عراقية نادرة، ترفض الاستمرار في دوامة المحاور، وتطالب بدولة وطنية لا رهينة الخارج".
وأضاف الركابي لـ"إرم نيوز"، أن "هذه اللحظة تفرض على الفصائل المسلحة مراجعة عميقة؛ لأن الزمن لم يعد يعمل لصالحها، ولا سيما بعد تقلص نفوذ إيران وتراجع تأثيرها في ملفات متعددة، وهذا ما دفع جهات كمرجعية النجف ومقتدى الصدر إلى رفع الصوت علنًا، وهو ما لم يكن يحدث بهذا الوضوح في السابق".
وأشار إلى أن "الخطر الأكبر على الفصائل المسلحة اليوم ليس من واشنطن أو من قصف إسرائيلي، بل من الداخل العراقي الذي بات أكثر وعيًا، وأكثر جرأة على المطالبة بنهاية هذا الفصل الدموي من تاريخ الدولة".
حذر متزايد
وتُظهر مؤشرات سياسية أخرى، أن مواقف بعض الأطراف السياسية باتت أكثر حذرًا في دعم الفصائل، خصوصًا مع التغيرات في بنية البرلمان المرتقب، والحديث عن إدماج عناصر من الحشد ضمن المؤسسات الرسمية كأفراد لا كمجموعات، وهو ما اعتبُر بداية فعلية لتفكيك المنظومة الحالية للفصائل.
كما أن الالتفاف على العقوبات الأمريكية عبر منصات دفع جديدة لرواتب الحشد - بحسب مختصين - يكشف مدى تعقد العلاقة بين الدولة والميليشيات، وحجم التحدي الذي ستواجهه الحكومة المقبلة في ضبط هذا الملف دون التصادم مع القوى الممسكة بالسلاح.
ورغم كل ذلك، يؤكد سياسيون أن عملية تفكيك الميليشيات لن تتم إلا بغطاء داخلي جامع، وبإرادة إقليمية تضمن توازنات العراق، وسط خشية من أن تؤدي أي خطوة غير مدروسة إلى صدامات دموية أو موجات عنف قبيل الانتخابات المرتقبة.