من دون سابق إنذار، انفجرت الأوضاع في السويداء، لتدخل المحافظة الجنوبية السورية في أتون معارك عنيفة بين فصائلها المحلية وعشائر البدو، وتتوسّع لاحقًا بدخول فصائل داعمة للمهاجمين من درعا وريف دمشق ودير الزور.
واليوم، تتدحرج كرة النار بسرعة "غير مضبوطة"، وسط غموض يحيط بالدوافع والأسباب "الحقيقية" التي أوصلت الأمور إلى هذا المآل المتأزم، وسط تساؤلات عن تأخّر صدور أي موقف إسرائيلي حيال التطورات، على عكس المرات السابقة التي سارعت فيها تل أبيب إلى وضع "خطوطها الحمراء" أمام دمشق.
إذًا؛ ما طبيعة ودوافع ما يجري؟ هل تستعجل حكومة دمشق حسم ملف السويداء وضمّها إلى الدولة "المركزية"، أم أن يدًا خارجية قد تكون وراء تحريك الأحداث؟ وفي كلا الاحتمالين، يبقى السؤال واحدًا: ماذا يُطبخ أو يُعدّ لمحافظة السويداء؟
ذريعة "فرض الأمن"
يرى الكاتب والمحلل السياسي السوري، مالك الحافظ، أن ما يحدث في محافظة السويداء لا يمكن تأطيره في خانة "نزاع أهلي"، فهو نتيجة مباشرة لتراكم اختلالات بنيوية في العلاقة بين القوى المحلية في المحافظة والسلطة المركزية الانتقالية، التي تنتهج في هذه المرحلة تحديدًا، سياسة فرض الهيبة من دون التأسيس لأي تفاهم وطني واضح، أو تعاقد مدني مقبول مع الأطراف الاجتماعية المؤثرة في السويداء.
ويقول الحافظ في تصريحات لـ"إرم نيوز": "نحن أمام استخدام السلطة الانتقالية لذريعة 'فرض الأمن'، وهو الأمر الذي أخذ شكلًا من التدخل المباشر غير المتفاهم عليه، في منطقة لطالما عُرفت بنهجها الخاص في تنظيم شؤونها المجتمعية خلال أكثر من عقد، ورفضها الحاد لأي اقتحام مفروض يُعاد فيه تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع بالقوة".
ويعتقد الباحث مالك الحافظ أن الحديث عن أطراف خارجية في هذا السياق يظل حتى الآن غير موثّق بما يكفي، إذ "لا توجد مؤشرات صلبة على وجود دور خارجي مباشر في إشعال التوتر داخل السويداء"، مشيرًا إلى أن الطريقة التي يتم فيها الزج بأطراف عشائرية، وتضخيم الصدام من دون معالجات سياسية حقيقية، تفتح الباب أمام مقاربات أمنية قد تكون مُفخخة بمرور الوقت. وهنا، لا بدّ من الحذر من الانزلاق إلى تأويلات تُبرّر أيّ تمدد أمني مركزي تحت ذريعة محاربة الفوضى.
ويوضح الحافظ أن "السويداء ليست خارج الدولة، ولكنها أيضًا ليست طرفًا يمكن تجاوزه في بنية الدولة الجديدة. وفرض السيطرة بالقوة من دون شراكة سياسية ومدنية يُعمّق الشروخ، ويحوّل أي احتمالية حضور مؤسساتي إلى عامل نزاع، وليس إلى عنصر استقرار. وهذا ما يجعل من الصراع الجاري اليوم لحظة اختبار لنهج السلطة الانتقالية؛ هل هي بصدد بناء سلطة قانونية جامعة، أم ترسيخ مركز أمني يُعيد إنتاج أنماط الإكراه القديمة؟" حسب قوله.
الموقف الإسرائيلي "الغامض"
أما عن تأخّر التدخل الإسرائيلي، وهو المعروف بـ"خطوطه الحمراء" حيال أي تهديد للدروز، فيقول الحافظ إنّ الغياب شبه الكامل لأي موقف إسرائيلي علني حتى الآن يُعدّ مستغرَبًا، منوّهًا إلى عدة فرضيات مطروحة، أبرزها أن إسرائيل تراقب التطورات دون تدخل في المرحلة الحالية، لبناء رؤية واضحة وموجّهة بعد قراءة المشهد كاملًا.
أما الاحتمال الآخر، وهو الأكثر حساسية، فيتمثّل في أن السكوت الإسرائيلي يرتبط بسياقات سياسية جديدة تتشكّل بصمت، خاصة في ظل تقارير عن مفاوضات أمنية بين تل أبيب ودمشق الانتقالية. ومن هذا المنظور، فإن أيّ تعبير إسرائيلي علني قد يُربك التفاهمات الجارية، أو يعطي إشارات سلبية للطرف الآخر؛ وبالتالي، فإن الموقف الصامت قد لا يكون انعزالًا، بقدر ما هو جزء من حسابات تكتيكية دقيقة.
مشهد الساحل في السويداء؟
ثمّة مخاوف في السويداء من استنساخ الأجواء التي سبقت مجازر الساحل، عبر التحريض واستدعاء "الفزعات" من باقي المناطق السورية إلى السويداء؛ فهل يمكن أن يتكرّر مشهد الساحل في السويداء؟
يُجيب الحافظ بأن "السويداء تمتلك بنية مجتمعية ومرجعية أهلية مختلفة تمامًا عن السياقات التي شهدها الساحل السوري سابقًا. فالمحافظة، بطابعها الاجتماعي المُغلق نسبيًا، ومرجعياتها الدينية الخاصة، لطالما عُرفت بقدرتها على تنظيم شؤونها الداخلية، ورفضها الحاسم لأيّ تدخل غير متّفق عليه. وهذا ما يجعل من احتمال تكرار سيناريو الساحل أمرًا أقل قابلية للتحقّق بنفس الصيغة، حتى لو حاولت بعض القوى التي تأتي من بعض المناطق السورية تكراره".
لكن، ورغم هذه الخصوصية، يقول الباحث السياسي، إنّ التحذير من تدحرج الأحداث إلى مشهد أكثر دموية يبقى قائمًا؛ لا سيّما إذا أُصِرّ على التعاطي الأمني الأحادي، وتم تجاهل مطالب القوى المحلية بإعادة تعريف العلاقة مع السلطة الجديدة على أسس وطنية ومدنية متكافئة. فـ"الفزعات" التي قد تُستجلب تحت عنوان فرض النظام، قد تفتح الباب أمام صراع مفتوح لا يمكن ضبط تداعياته، خصوصًا في مجتمع لا يقبل بفرض الأمر الواقع من دون شراكة أو احترام.
وبالتالي، يخلُص الحافظ إلى أنّ "مستقبل الوضع في السويداء مرهون بقرار مركزي؛ إمّا التعاطي مع المحافظة بوصفها شريكًا وطنيًا، له خصوصيته ووزنه وتاريخه، أو التعامل معها كمنطقة أمنية عصيّة يجب تطويعها. وهذا الخيار الأخير لا يؤدي إلّا إلى الفوضى المتسلسلة، مهما بدت السيطرة ممكنة على المدى القصير".
تعقيد وغموض
من جهته، يرى الكاتب والمحلل السياسي اللبناني، علي حمادة، أنّ الأمور شديدة التعقيد وشديدة الغموض، لأن المعلومات شحيحة ومتضاربة جدًا بين هذا الفريق وذاك.
لكن حمادة لا يستبعد تورّط أطراف خارجية في إشعال هذا الفتيل؛ لأن الأحداث بدأت باعتداءات من عشائر البدو ضد مراكز ومواقع للقوات المحلية في منطقة السويداء. ويقول: "لكن لا نعرف تمامًا إذا كان هناك ضوء أخضر دولي أو إقليمي للسلطة المركزية لكي تضع يدها على السويداء"، حسب وصفه.
ويلفت الكاتب اللبناني، في تصريحاته لـ"إرم نيوز"، إلى وجود مفاوضات جارية منذ عدّة أشهر بين الحكومة المركزية في دمشق والسويداء، من أجل إيجاد نوع من الاتفاق على صيغة للسلطة في محافظة السويداء. مشيرًا إلى أنه "من المبكر القول إنّ هناك ضوءًا أخضر لفرض سلطة دمشق بالقوة في السويداء؛ لأن المفاوضات كانت جارية إلى أن حصلت اعتداءات من عشائر بدوية متفلّتة، ومعظمها يتعاطى التهريب العابر للحدود بين سوريا والأردن".
ويُبدي الكاتب حمادة استغرابه من تأخّر الموقف الإسرائيلي تجاه ما يجري، على عكس المرة السابقة، حيث كان هناك موقف إسرائيلي سريع، وخرجت التهديدات الإسرائيلية في اللحظات الأولى.
ويربط حمادة هذا "التأخر" بالاتصالات الإسرائيلية مع دمشق، مشيرًا إلى "اتصالات مكثّفة على كل الأصعدة الأمنية والسياسية، وربما أيضًا في القطاع الاقتصادي والأعمال مستقبلًا". وبالتالي، يمكن أن يكون هناك تغيّر في الموقف الإسرائيلي من ناحية السويداء، حسب قوله.