في قلب الشرق الأوسط وعلى وقع رمال السياسة المتحرّكة، ينشغل العالم بواحد من أكثر الملفات حساسية في العالم: البرنامج النووي الإيراني.القصة لم تبدأ بالأمس، بل تعود إلى أكثر من نصفِ قرن.
العام 1957، وبدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت إيران أولى خطواتها نحو الطاقة النووية ضمن برنامج "الذرة من أجل السلام"... نعم، أمريكا نفسها هي مَنْ وضعت أوّل حجر في ذلك الطريق.
في عهد الشاه محمد رضا بهلوي تسارعت الطموحات، مفاعلات واتفاقيات ومخططات لبناء عشرات المنشآت النووية. لكنّ كلّ شيء تغيّر عام 1979 عندما بدأت الثورة الإسلامية وأطاحت بالشاه.
منذ تلك اللحظة، دخل البرنامج النووي الإيراني مرحلة جديدة غامضة ومثيرة للجدل. وطيلة العقود التالية تعقّدت العلاقة بين إيران والغرب على وقع الاتهامات والإنكار، لتنفجر الأزمة لاحقًا أكثر، لا سيّما مع كشف تقارير دولية عن منشآت سرّية في نطنز وأراك، وهنا ازداد الشك بأنّ إيران تطوّر سلاحًا نوويًا. فهل يقترب نظام خامنئي فعلًا من إنتاج القنبلة الذرية، ومتى يمكن أن يتحقق ذلك؟
يقول الخبير الأمريكي في العلاقات الأمريكية الإيرانية سينا آزودي لـ "إرم نيوز" إنّ "إيرانيين يملكون ما يكفي من المواد الانشطارية لإنتاج القنبلة، لكن إذا اتخذوا القرار السياسي بتطوير أسلحة نووية فسيحتاجون أيضًا إلى سنة أخرى لتجميع سلاح نووي. أمّا إذا أرادوا إنتاج قنبلة بدائية الصنع، وهو أمر أبسط لكنّه ليس سلاحًا متطوّرًا فعليًا مثل السلاح المتقدم، فهم سيحتاجون ما بين ستة أشهر إلى سنة".
لكن في الحقيقة، فإنّ الإجابة على هكذا سؤال ليس أمرًا بهذه السهولة والبساطة، لذا عندما نفكّر فيما إذا كانت إيران تمتلك القدرة بالفعل أو هل ستطوّر سلاحًا نوويًّا، فإنّ الأمر يتعلق بثلاث نقاط:
في ذلك السياق، تقول داريا دولزيكوفا، الخبيرة في برنامج الانتشار والسياسة النووية: "إذا أرادت إيران السعيَ نحو امتلاك سلاح نووي، فبإمكانها تخصيب ما يكفي من المواد الانشطارية، أي ما يكفي من اليورانيوم لصنع نحو 5 أسلحة نووية في أقل من أسبوع حاليًا. لكن المشكلة هي أنه لا يُمكن استخدام المواد الانشطارية فحسب، بل يجب تطوير السلاح النووي نفسه. وقد يستغرق ذلك وقتًا أطول".
وتتابع: "أمّا النقطة الثانية، كيفية تطوير الرأس الحربية النووية: هناك بعض الأنشطة الجارية، والتي ربّما لا تكون جزءًا من جهود مشتركة لتطوير سلاح نووي. ولكن، كما ذكرت أجهزة الاستخبارات الأمريكية، قد تكون ذات صلة إذا قرّرت إيران اتخاذ ذلك القرار. لذا، فإنّ الخطوة التالية هي كيفية تطوير الرأس الحربي النووي، ثمّ تركيبه على صاروخ ليكون قابلًا للإطلاق".
والنقطة الثالثة فهي النيّة... بحسب تقييم الاستخبارات الأمريكية، فالإيرانيون لم يتخذوا قرارًا بعد بإنتاج سلاح نووي، وذلك لا يعني أنّ برنامجهم النووي لا يثير القلق. فهم ربّما يسعون فقط إلى الحفاظ على الحد الأدنى من قدرتهم، وهو ما يحوزون عليه أساسًا في هذه المرحلة، وبالتالي فهم لا يمتلكون سلاحًا نوويًا بالمعنى الحقيقي، لكنّ البرنامج مثير للقلق بما يكفي ليُوفر لهم النفوذ والردع اللذين قد يسعون إليهما.
رغم إصدار مرشد إيران الأعلى علي خامنئي قبل سنوات فتوى دينية تُحرّم السلاح النووي، إلّا أنّ طهران تؤكّد أنّ من حقّها تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، وهي تريد فقط كهرباء ومكانة في نادي الدول الكبرى، فيما تصرّ واشنطن وتل أبيب على أنّ طهران تخفي مشاريع عسكرية.
لا توجد معلومات دقيقة حول العدد الدقيق لأجهزة الطرد المركزي التي تمتلكها إيران، لكن بحسب المعلومات المتوفرة، فإنّ آخر التقديرات تشير إلى أنّ عدد الأجهزة التي تمّ تركيبها، يبلغ نحو 20 ألف جهاز، فيما ليس من الواضح عدد الأجهزة الأخرى التي لا تزال قيد الإنتاج.
كما أنّ عدد الأجهزة الأخرى المُخزّنة ليس واضحًا أيضًا، لأنّ الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يعد بإمكانها الوصول إلى منشآت إنتاج أجهزة الطرد المركزي. لذا ثمّة علامة استفهام بهذا الشأن.
وفي مقارنة بالحدود التي كانت مفروضة بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، فقد سُمح للإيرانيين بالتخصيب بما يزيد قليلًا عن 5000 جهاز طرد مركزي. لذا فهم يُخصبون اليوم باستخدام عدد أكبر بكثير من أجهزة الطرد المركزي، ممّا كان مسموحًا لهم بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة. وهنا من المهم الإشارة أيضًا ليس فقط إلى كمية أجهزة الطرد المركزي المنتجة، بل إلى جودتها أيضًا.
وبموجب الاتفاق النووي، أو ما يُعرف بخطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، كانت إيران قد التزمت بتفتيش شامل مقابل تخفيف العقوبات الدولية عنها، إلّا أنّ الفرحة بالاتفاق لم تدم طويلًا، إذ قرّر الرئيس دونالد ترامب عام 2018، الانسحاب من الاتفاق وفرض عقوبات جديدة، معتبرًا أنّ الاتفاق الذي أبرمه الديمقراطيون في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، صفقة سيئة وهكذا، عادت التوتّرات من جديد. إيران رفعت نسبة التخصيب، وأمريكا شدّدت العقوبات، وإسرائيل هدّدت بتوجيه ضربات عسكرية.
قبل الدخول في مسألة المفاوضات، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ إيران نشرت العشرات من المنشآت النووية في مختلف أنحائها، لكنّ موقعي نطنز وفوردو ربّما يكونان من أهمّها. وفي كلا المنشأتين، توجد مواقع التخصيب، وبالتالي فعملية زيادة نسبة اليورانيوم 235 في وقود اليورانيوم، تحدث في نطنز وفوردو.
توضح دولزيكوفا أنّ "محطة تخصيب الوقود في نطنز هي المنشأة التي يتواجد فيها أكبر عدد من أجهزة الطرد المركزي، وأكبر عدد من السلاسل التعاقبية بين المنشآت الإيرانية، أو على الأقل تلك التي نعرفها. وهي أيضًا تقع تحت الأرض، وهو يمكن أن يشكل مشكلة إذا جرى التفكير في احتمال استخدام القوة العسكرية ضدّ المنشأة كونها مدفونة تحت الأرض، فمن الصعب اختراقها".
هناك منشأة أخرى لتخصيب الوقود في نطنز، وهي منشأة تخصيب الوقود التجريبية، والتي تقع فوق الأرض وتستخدم في أنشطة تخصيب اليورانيوم. وهناك أيضًا منشأة لتجميع أجهزة الطرد المركزي في نطنز والتي تُنتج بعض المكوّنات وأجهزة الطرد المركزي المستخدمة في التخصيب.
وفي موقع فوردو توجد منشأة أخرى لتخصيب اليورانيوم. ويوجد فيها مصنع فوردو لتخصيب الوقود، وهي تقع أيضًا تحت الأرض على عمق كبير.
تجدر الإشارة إلى أنّ إيران تقوم حاليًا بتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60% قبل خطة العمل الشاملة المشتركة، والمعروفة بشكل أفضل باسم الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015. كانوا يخصبون بنسبة لا تزيد عن 20%، وهو الحد الأقصى الذي وصلوا إليه قبل ذلك، بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة كانت مستويات التخصيب محدّدة عند 3.67%، لذا مقارنة بذلك، فإن 60% تعتبر نسبة مرتفعة جدًّا.
عودًا على بدء... ثمّة ما يحدث في الكواليس، وسط غموض يخيم على المشهد، وفي ظل سعي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى خلق اتفاق يكون بتوقيعه هو، فيما تقف المفاوضات النووية عند مفترق طرق خطير، وسط ضغوطات متبادلة وتصعيد سياسي، ليبرز في ظل كلّ ذلك احتمالان رئيسان، إمّا العودة إلى اتفاق معدّل بشروط جديدة، أو استمرار الجمود مع تصاعد المخاطر في المنطقة. فهل تُولد صفقة جديدة من رحم التصعيد؟ وهل نشهد عودة إلى الاتفاق القديم لكن باسم جديد؟
يقول آزودي : "إذا حصل اتفاق بين إيران والولايات المتحدة، فسيكون مشابهًا إلى حدّ ما لخطة العمل المشتركة التي تمّ وضعها سابقًا، وهي تنص على منح إيران قدرة تخصيب محدودة مقابل مراقبة صارمة للغاية للبرنامج النووي الإيراني من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن دون حصول إيران على القدرة على التخصيب داخل البلاد، لا أعتقد أنّها ستوافق على أيّ اتفاق محتمل".
مع تزايد التعقيدات واستمرار إيران في توسيع أنشطتها النووية وتخصيب اليورانيوم بنسب عالية تقترب من المستوى العسكري، ماذا لو لم يتم التوصل إلى اتفاق؟ وماذا عن الاحتمالات العسكرية التي تمّ الحديث عنها؟ إدارة ترامب فكرت بشكل جدي، وكذلك الإسرائيليون، في طبيعة الهجوم العسكري الذي يمكن أن يستهدف تقويض قدرة إيران النووية.
من جهتها تشير دولزيكوفا إلى أنّه "ليس من الضرورة شنّ هجوم عسكري شامل لتحقيق ذلك. لكنّني أعتقد أنّه سيكون من الصعب جدًّا، إن لم يكن مستحيلًا، القضاء على البرنامج النووي الإيراني بالكامل من خلال الهجمات العسكرية. أوّلًا، لأنّ هناك عددًا كبيرًا من المنشآت في كلّ أنحاء البلاد. لذا، إذا أردت القضاء تمامًا على البرنامج النووي الإيراني، سيتعين عليك مهاجمة عدد كبير من المنشآت، إن لم يكن جميعها، وعدد كبير منها موجود في أعماق الأرض".
الضربة العسكرية أمر ليس سهلًا على كلّ الأطراف المعنية بالصراع بالتأكيد، على سبيل المثال من الصعب اختراق محطتي التخصيب في نطنز وفوردو، وأيضًا يتعيّن التعامل مع أنظمة الدفاع الجوية الإيرانية.
بين رهانات السياسة وشبح الحرب، يبقى البرنامج النووي ملفًا مفتوحًا على كلّ الاحتمالات، ويبقى مصيره معلقًا بين التفاهمات الهشة والمصالح المتغيرة، بانتظار قرارات لم تُتخذ بعد، فيما المنطقة تقف على أعتاب فصل جديد من التوتر والصراع.