بين تسارع الأحداث الدولية وتغير موازين القوى، تتجه الأنظار نحو التقارب المتنامي بين موسكو وبيونغ يانغ، حيث لم يعد هذا التقارب يقتصر على تبادل المواقف السياسية أو الخطابات المناهضة للغرب، بل أخذ منحى عمليًا يثير تساؤلات حقيقية حول أهدافه وتداعياته.
فالتحالف بين البلدين بات يتجاوز الرمزية، مع ظهور مؤشرات على تنسيق عسكري وتقني واقتصادي متقدم، ومن بين كل هذه المؤشرات، يبرز سؤال محوري: من يدفع فعليًا تكلفة هذا التحالف؟ وهل هو نتاج مصالح مشتركة مؤقتة، أم مشروع طويل الأمد يعيد تشكيل المشهد الإقليمي والدولي؟
رغم التباين الظاهري في العقيدة السياسية، فإن ما يجمع موسكو وبيونغ يانغ هو العامل المشترك الأهم: العزلة الدولية. فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، تخضع روسيا لعقوبات غربية مشددة، بينما تعيش كوريا الشمالية تحت واحدة من أطول سلاسل العقوبات في العالم، نتيجة برنامجها النووي والصاروخي.
تسارعت وتيرة العلاقات بين البلدين بشكل غير مسبوق، تُوجت بزيادة ملحوظة في عدد اللقاءات والزيارات الدبلوماسية، التي وصل عددها إلى 24 لقاء في عام 2024 وحده وفق تحليل للباحثة أولينا غوسينوفا.
هذا التحول تجسد بوضوح في زيارة كيم جونغ أون إلى قاعدة فوستوشني الفضائية الروسية عام 2023، والتي لم تكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل بحسب تقرير صادر عن “مجموعة الأزمات الدولية” كانت جزءًا من اتفاق ضمني لتبادل الأسلحة الكورية الشمالية مقابل دعم تقني روسي في المجال الفضائي. وتواصل هذا المسار التصاعدي في العلاقات مع زيارة فلاديمير بوتين إلى بيونغ يانغ في يونيو 2024، وهي الزيارة الأولى له منذ أكثر من عقدين، وشكلت لحظة فارقة في إعادة تشكيل التحالف بين البلدين. خلال الزيارة، وقع الطرفان "معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة" التي تضمنت بندًا للدفاع المتبادل، بما يفرض التزام كل طرف بدعم الآخر في حال تعرضه لعدوان خارجي إضافة إلى توقيع اتفاقيات استراتيجية لم تشهدها العلاقات منذ الحرب الباردة.
وفي هذا السياق، جاءت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى كوريا الشمالية في يوليو 2025 كخطوة مهمة في تنفيذ بنود معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة، الموقعة في يونيو 2024.
في ظل القيود الغربية، لجأ الطرفان إلى نظام اقتصادي بديل يعتمد على المقايضة، والعملة المحلية، وأحيانًا الذهب أو وسطاء تجاريين بعيدًا عن النظام المالي العالمي.
وفقًا لوكالة سبوتنيك الروسية، بلغ حجم التجارة الثنائية 34.4 مليون دولار في 2023، وارتفع إلى 52.9 مليون دولار في النصف الأول من 2024. وهذه الأرقام تخص المواد الغذائية والوقود ولا تشمل التبادلات العسكرية غير المعلنة.
أما على الجانب الآخر، فتُشير تقارير غربية إلى أن روسيا زودت كوريا الشمالية بما يزيد عن مليون برميل من النفط بين مارس وأكتوبر 2024، متجاوزة الحصة السنوية المسموح بها لكوريا الشمالية (500 ألف برميل) وفق قرار مجلس الأمن الصادر في 2017.
وفي ما يتعلق بالشق العسكري، فقد قدّرت تحليلات من Kyiv Post أن قيمة شحنات الأسلحة تتراوح بين 1.72 و5.52 مليار دولار، بينما أفادت تقارير مثل فايننشال تايمز ولوموند أن الذخيرة الكورية الشمالية شكلت نحو 40–50% من إجمالي ذخائر روسيا في 2024.
إضافة إلى ذلك، تم إرسال نحو 10 آلاف جندي كوري شمالي إلى المنطقة الحدودية الروسية–الأوكرانية (منطقة كورسك) في أكتوبر 2024، تلتها تدريبات ثم نشرهم فعليًا في الميدان وتؤكد تقارير أن هذه الأعداد ارتفعت مع حلول عام 2025.
كما أن رويترز تشير إلى أن روسيا بدأت باستقبال آلاف العمال الكوريين الشماليين، خاصة في مشاريع البناء في سيبيريا، مقابل مساعدات غذائية ووقود ومعدات زراعية، وعلى الرغم من أن هذه العمليات تتم خارج النظام المالي العالمي، إلا أنها تعد من أبرز أدوات التمويل المشترك بين نظامين يبحثان عن البقاء بعيدًا عن رقابة المؤسسات الدولية.
كسر للنظام العالمي أم تحالف مؤقت؟
لا ينبع القلق الغربي من هذا التحالف بسبب البعد العسكري فقط، بل من إمكانية نقل نموذج “التحالف في الظل” كأداة لمواجهة العقوبات الغربية. فنجاح موسكو وبيونغ يانغ في تجاوز العزلة قد يشجع دولًا أخرى على تبني نهج مماثل.
لكن في المقابل، هناك من يرى أن هذا التحالف لا يتجاوز كونه مؤقتًا، مرتبطًا بتوازنات الحرب والضغط الغربي.
يبدو أن التقارب بين موسكو وبيونغ يانغ فرضه الواقع أكثر مما صنعته الرؤية هو تحالف تحركه الضرورة العسكرية والحاجة للبقاء.
وفيما تسعى الدولتان إلى كسر طوق العزلة الدولية، يبقى السؤال الأهم:
هل يستطيع تحالف كهذا أن يصمد أمام ضغوط النظام الدولي؟ أم أنه مجرد تحالف مؤقت، سيدفع جميع الأطراف ثمنه باهظا؟