بإجمالي إنفاق دفاعي يتجاوز تريليون دولار سنويا من قِبل الدول الأعضاء الثلاثين، وأكثر من 3 ملايين جندي نشط تحت مظلته، يقف حلف شمال الأطلسي كأكبر قوة عسكرية جماعية في العالم، لضمان الأمن الأوروبي والأطلسي، لكن الحرب في أوكرانيا، والتقلبات السياسية في واشنطن، وصعود الصين جميعها عوامل تضع الحلف أمام اختبار حقيقي. فهل تكفي هذه الموارد الضخمة لمواجهة التحديات الجديدة، أم ستطغى عليه عواصف القرن الواحد والعشرين؟
منذ قمة بوخارست 2008 كان الوعد بعضوية أوكرانيا في الحلف قائماً، لكن من دون موعد محدد، ومع بدء الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022 تحول الأمر إلى اختبار وجودي للحلف، ففي قمة فيلنيوس 2023 أُزيل شرط «خطة عمل العضوية» لكن لم تُمنح كييف دعوة رسمية.
وفي قمة واشنطن 2024، قدم الحلف حزمة دفاع جوي ومساعدات عسكرية، مؤكداً أن هذه الخطوات تشكّل «جسرا إلى العضوية»، لكن حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غيّر كل شيء عندما أكد استحالة استعادة أوكرانيا لشبه جزيرة القرم وانضمامها إلى عضوية الناتو بعد قمة تاريخية جمعته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، وكأنه وضع حدا لكل الوعود التي تلقتها كييف خلال السنوات الفائتة معلنا إعادة كل شيء إلى نقطة الصفر.
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022، تغيّر المشهد داخل الناتو بشكل جذري، سواء من حيث التوسع أو الأرقام المالية ..
فقد انضمت فنلندا (2023) والسويد (2024)، بينما ارتفع الإنفاق الدفاعي لدول أوروبا وكندا إلى أكثر من 485 مليار دولار في 2024 بزيادة 20% عن العام السابق.
دول الناتو تلتزم بإنفاق 2% من الناتج المحلي على الدفاع، وهو ما تم الاتفاق عليه في 2014 لضمان مساهمة عادلة في حماية الحلف.
في 2021، كانت فقط 6 دول تحقق هذا الهدف، وارتفع العدد إلى 11 دولة في 2023، ثم وصل إلى 18 دولة في 2024، مع التزام جديد برفع السقف تدريجيا إلى 5% بحلول 2035.
أما على مستوى الدول، فقد رفعت السويد إنفاقها إلى نحو 12 مليار دولار، وفنلندا إلى أكثر من 7 مليارات مع خطط للتوسع إلى 11.5 مليار بحلول 2032، فيما سجلت بولندا أعلى نسبة إنفاق تتجاوز 4% من الناتج المحلي. بالمقابل، تبقى الولايات المتحدة اللاعب الأكبر، بإنفاق يقارب 997 مليار دولار في 2024، أي ما يعادل 66% من مجموع إنفاق الحلف؛ ما يكرس تفوقها المالي والعسكري ولكنه يثير دائما نقاشا حول «تقاسم الأعباء».
يقول البعض إن مستقبل الناتو يعتمد بشكل كبير على المزاج السياسي في واشنطن، لكن هناك أصواتا أخرى تؤكد أنه سيظل "حقيقة واقعة" يتعين على كل الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض أن تتعايش معها، وذلك بسبب التشريع الذي تم سنّه في قانون تفويض الدفاع الوطني الذي يقيد قدرة الرئيس الأميركي على الانسحاب من جانب واحد من التحالفات دون موافقة الكونغرس، ورغم معرفة الأوروبيين بكل هذه التفاصيل إلا أنهم يحاولون أن يكونوا أكثر حذرا في الاعتماد الكامل على المظلة الأمريكية.
بينما يؤكد باحثون ألمان في تقرير السلام لعام 2025 أن الشراكة عبر الأطلسي كما نعرفها قد بلغت نهايتها، وأن الحلف يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى استراتيجية واضحة تحمي وحدة أعضائه ومصداقيته على المسرح العالمي ..
قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذات مرة إن الناتو "ميت سريريا"، بينما انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب مرارا غياب المساهمات العادلة من باقي الأعضاء، فيما أشار رئيس المفوضية الأوروبية الأسبق جان-كلود يونكر إلى تراجع الثقة داخل الحلف.
ورغم هذه الملاحظات والانتقادات، ورغم إدراك العديد من العواصم الأعضاء لما يجري داخل التحالف، إلا أن الناتو لا يزال يحتفظ بقدرة عسكرية ضخمة، بل أقوى مما كان عليه قبل عقد.
ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر اليوم ليس في مدى قوة ترسانته، بل في قدرته على الحفاظ على تماسكه السياسي ودوره الاستراتيجي، في عالم يتحول بسرعة نحو تعددية الأقطاب وتوازنات جديدة يصعب التنبؤ بها.