مع اقتراب القوات الروسية من انتزاع السيطرة على مدينة بوكروفسك الاستراتيجية شرقي أوكرانيا، تجد كييف نفسها أمام معضلة مألوفة ومريرة، فهل تتراجع لحماية ما تبقى من جنودها، أم تواصل الدفاع عن المدينة مهما كلف الأمر، رغم أن تجارب مماثلة، باخموت وأفدييفكا، انتهت بخسائر بشرية فادحة؟
هذا الجدل القديم المتجدد يعود اليوم بقوة، مع ضغط روسي متصاعد، ونقص متنامٍ في قدرة أوكرانيا على تعويض خسائرها البشرية.
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فبينما يرى البعض أن الانسحاب ضرورة تكتيكية، يخشى آخرون أن يؤدي سقوط مدينة كبرى جديدة إلى ضربة معنوية قد تستغلها موسكو في حرب السرديات والتأثير على مواقف واشنطن والداعمين الغربيين.
أخطاء تتكرر
ترى القيادة الأوكرانية أن إبقاء المدن تحت سيطرتها لأطول فترة ممكنة له مكاسب استراتيجية؛ إذ يجبر روسيا على استنزاف قواتها باستخدام أعداد ضخمة من المهاجمين. غير أن هذا النهج أثبت في حالات كثيرة أنه ينقلب ضد كييف بمجرد تغير موازين القوة.
تجارب باخموت (2023) وأفدييفكا (2024) تُعد مثالًا حيًّا؛ فبالرغم من أن الصمود هناك كبّد موسكو خسائر كبيرة، في باخموت وحدها قُدّر عدد القتلى الروس بأربعة أضعاف الخسائر الأوكرانية، إلا أن تكلفة الدفاع الأوكراني كانت هائلة؛ أكثر من 10 آلاف جندي قُتلوا أو أُصيبوا بجروح بالغة.
تكرر السيناريو في أفدييفكا؛ حيث وسّع الروس الطوق تدريجيًّا حتى أصبح الممر الأخير للانسحاب لا يتجاوز ميلاً واحدًا، لتضطر القوات الأوكرانية إلى الانسحاب تحت نيران كثيفة، وفُقد مئات الجنود.
اليوم، يخشى المحللون العسكريون من أن تستعيد القيادة الأوكرانية نفس النمط؛ البقاء حتى اللحظة الأخيرة، ثم الانسحاب تحت الضغط، بخسائر أكبر مما لو تم اتخاذ القرار مبكرًا.
بوكروفسك على حافة السقوط وميرنوهراد مهددة بالتطويق
تُعد بوكروفسك أكبر مدينة قد تخسرها أوكرانيا منذ سقوط باخموت. المدينة، التي كان يسكنها نحو 60 ألف شخص قبل الحرب، تمثل بوابة العمليات الروسية نحو استكمال السيطرة على إقليم دونيتسك.
في الأيام الأخيرة، تقدَّم الروس من الجنوب وسط ضباب كثيف شلّ عمل الطائرات الأوكرانية المسيّرة، ليندفع رتل من الجنود على دراجات نارية وعربات دون مقاومة تُذكر، وهو مشهد صادم وثّقته عدة مقاطع تحققت منها صحيفة "نيويورك تايمز".
أما ميرنوهراد المجاورة، فتواجه خطرًا مماثلًا، إذ تركت القوات الروسية ممرًّا لا يتجاوز عرضه ميلين لانسحاب القوات الأوكرانية.
وعلى الرغم من تأكيد بعض القادة الميدانيين أن الطرق ما تزال مفتوحة، إلا أن الخطر يتعاظم مع التقدم الروسي المتواصل.
القوات الأوكرانية في الميدان تؤكد أن نقص الجنود المتخصصين في قتال المدن يشلّ قدرتها على الصمود.
كما أن قتال المناطق الحضرية يقلل من فعالية الطائرات المسيّرة، السلاح الأبرز لدى كييف في كشف مواقع العدو.
وفي المقابل، تواصل روسيا استخدام القنابل الموجهة الثقيلة التي تُدمّر التحصينات الأوكرانية بدقة عالية.
من جانبه، قال قائد كتيبة مسيّرات أوكرانية بوضوح، إن مصير المدينة قد حُسم بالفعل، علينا حماية جنودنا وسحبهم في الوقت المناسب.
خطر الانهيار الميداني
استراتيجية الاستنزاف التي تعتمدها كييف تعتمد على إلحاق أكبر قدر من الخسائر بروسيا قبل الانسحاب؛ إلا أن هذا النهج يفقد فاعليته بمجرد أن تقترب القوات الروسية بما يكفي لجعل طرق الإمداد تحت ضربات المدفعية.
تتزايد المخاوف اليوم من أن يؤدي تأخر الانسحاب في بوكروفسك وميرنوهراد إلى فجوات كبيرة في الجبهة قد تستغلها موسكو لتقدُّم مفاجئ وسريع.
وقد حدث ذلك بالفعل في الجنوب، حيث سيطرت روسيا خلال أيام على ست قرى في زابوريجيا.
في النهاية، يبقى السؤال الحاسم؛ هل تستطيع كييف تحديد اللحظة المناسبة للانسحاب قبل أن يتحول الصمود إلى فخ قاتل، أم أن الضغوط السياسية والعسكرية ستجبرها على تكرار سيناريوهات باخموت وأفدييفكا، حيث يتحول المكسب التكتيكي إلى خسارة استراتيجية كبرى؟
بين حسابات التكتيك ومتطلبات الرمزية، تبدو أوكرانيا عالقة مجددًا في مدينة متأرجحة بين البقاء والانهيار، بينما الزمن وحده يحسم أي القرارين سيكون أثقل كلفة.