رأى خبراء سياسيون فرنسيون أن اجتماع تيرانا بين قادة أوروبا يعد خطوة دبلوماسية هامة قد تعيد تحديد مسار الحرب الأوكرانية في ظل المفاوضات المتعثرة بين موسكو وكييف.
وفي مشهد دبلوماسي لافت يحمل دلالات تتجاوز التوقيت والمكان، اجتمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع عدد من القادة الأوروبيين البارزين في العاصمة الألبانية تيرانا.
جاء ذلك بعد ساعات قليلة من انتهاء جولة مفاوضات مباشرة بين روسيا وأوكرانيا في تركيا، انتهت من دون اختراق يُذكر.
وبينما استمرت الضربات الروسية على الأراضي الأوكرانية، أجرى القادة محادثة هاتفية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في خطوة أثارت تساؤلات حول مسارات السياسة الأوروبية في الملف الأوكراني، وموقعها في لعبة النفوذ الدولي.
وفي مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الألباني إيدي راما، عبر الرئيس الفرنسي عن ثقته بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "لن يقف مكتوف الأيدي أمام ما وصفه بـ(البرود السياسي) و(السخرية الاستراتيجية) التي يتبعها فلاديمير بوتين".
وقال ماكرون حرفيًا: "أعتقد، بل أنا متأكد، أن الرئيس ترامب، الحريص على مصداقية الولايات المتحدة، سيتفاعل مع نهج الرئيس بوتين القائم على التهكم السياسي".
وهذه اللهجة تعكس توجّهًا فرنسيًا متناميًا يسعى لإعادة الزخم للتحالف الأطلسي، ولكن عبر خطاب يفتح الباب أمام حوار متعدد القنوات، يشمل حتى السياسيين الأمريكيين خارج السلطة التنفيذية الحالية، وعلى رأسهم ترامب، الذي لا يزال يُنظر إليه كلاعب محتمل في الانتخابات الأمريكية المقبلة.
وبحضور إيمانويل ماكرون، الزعيم الألماني المعارض فريدريش ميرتس، رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حمل لقاء تيرانا طابعًا يتجاوز كونه هامشًا لقمة إقليمية.
فقد بدت الصورة أقرب إلى "تكتل دبلوماسي غربي مصغّر"، ينسّق مواقفه بعد فشل الجولة التركية في دفع موسكو نحو تهدئة.
وقد أكدت مصادر الإليزيه أن المجتمعين ناقشوا تنسيق العقوبات الأوروبية المحتملة على روسيا، بالتوازي مع تنسيق مستمر مع واشنطن، وهو ما يعكس شعورًا أوروبيًا بأن الفرصة سانحة لإعادة توجيه قواعد اللعبة، خاصة في ظل وجود تململ أمريكي داخلي، وبوادر انشغال أمريكي متزايد بالداخل قبيل الانتخابات.
اعتبر الباحث السياسي الفرنسي لوران بوييه، المختص بالشأن الروسي الأوكراني في "مركز دراسات الأمن الأوروبي" بباريس، أن اجتماع تيرانا "هو محاولة لإعادة تعريف الشرعية التفاوضية في الصراع، إذ تشعر أوروبا أن سياق المفاوضات قد يُختطف مرة أخرى من قبل القوى الكبرى، روسيا وأمريكا، فيما يتم تهميش صوت الاتحاد الأوروبي".
وأضاف بوييه في تعليق خاص لـ"إرم نيوز" أن "الرئيس ماكرون يوجّه رسائل متعددة في آنٍ واحد: لموسكو بأن هناك جبهة أوروبية قادرة على الرد، لواشنطن بأن أوروبا ليست تابعة، ولترامب بأنه لا يزال مُرحّبًا به في مسرح التأثير الأطلسي إنْ عاد للبيت الأبيض".
وأوضح أن الموقف الفرنسي يراهن على "المسار الثقافي – الدبلوماسي" الذي يجمع بين الحزم في الردع والانفتاح على أدوات جديدة للحوار، تشمل القوى التقليدية وغير التقليدية، في وقت تتراجع فيه فعالية الأدوات الكلاسيكية.
من جهتها، ترى الدكتورة سيلين مارشان، الباحثة في "معهد مونتين للدراسات الجيوسياسية"، أن التحرك الفرنسي الأخير يُعبر عن "توازن صعب يسعى ماكرون لتحقيقه بين التصعيد والوساطة".
وأضافت مارشان لـ"إرم نيوز": "بينما تواصل موسكو هجماتها، وتستعرض قدرتها على كسر أي مسعى دبلوماسي، يختار ماكرون خطابًا يتوسل الروح السياسية لأوروبا، ويراهن على ترميم التحالفات بطريقة لا تضع أوروبا في موقع التبعية الكاملة لواشنطن".
وتوضح مارشان أن إشراك ترامب في المحادثات – ولو هاتفياً – لا يخلو من ذكاء تكتيكي، إذ يحمل في طياته محاولة "لتحييد الانقسام الأمريكي وإدخال كل الأقطاب المؤثرة في مسار الحلول السياسية".
فيما كانت القمة تُعقد في ألبانيا، استمرت القوات الروسية في قصف الأراضي الأوكرانية، وأسفرت ضربة بطائرة مسيرة عن مقتل تسعة أشخاص في إقليم "سومي".
وبحسب المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، فإن "إمكانية لقاء بين بوتين وزيلينسكي قائمة، لكنها مشروطة بتحقيق اتفاقات مسبقة، وتنفيذ عمليات تبادل أسرى".
وتصريحات بيسكوف تعيد التأكيد على أن الكرملين لا يراهن كثيرًا على اللقاءات الرمزية، بل يطالب بتنازلات عملية على الأرض، في حين تسعى أوكرانيا، بدعم أوروبي، للحفاظ على موقف تفاوضي قوي.
ويبدو أن أوروبا، وبخاصة فرنسا بقيادة ماكرون، تسعى لإعادة التموضع في معادلة الحرب الأوكرانية، ليس فقط عبر العقوبات والدعم العسكري، بل عبر ترسيخ خطاب دبلوماسي مستقل يدمج النفوذ السياسي بالبعد الرمزي الثقافي.