أعادت استراتيجية الأمن القومي الجديدة التي أعلنتها إدارة دونالد ترامب مطلع ديسمبر 2025 رسم ملامح التنافس بين اليابان وكوريا الجنوبية، الحليفين الأكثر قرباً لواشنطن في شرق آسيا.
وبينما ترحّب الدولتان بتعزيز الردع الأمريكي ضد الصين، فإن التفاصيل الخاصة بدور كل منهما تكشف عن تنافس جيوسياسي متصاعد على قيادة ما أصبح يعرف بـ"معمار الأمن الإقليمي" في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بحسب صحيفة "يوراسيان تايمز".
في هذا السياق، تحولت الاستراتيجية الأمريكية، المؤلفة من 29 صفحة، إلى محفز غير مباشر لصراع ناعم بين طوكيو وسيول، تغذّيه المخاوف المشتركة من الصين وكوريا الشمالية، لكن تفرّقه حسابات المكانة والقيادة والتموضع العسكري.
اختبار تايوان
أبرزت الأسابيع الأخيرة تبايناً لافتاً في درجة دعم إدارة ترامب لكل من اليابان وكوريا الجنوبية. فاليابان، بقيادة رئيسة الوزراء الجديدة سناء تاكايتشي، اندفعت إلى مواقف أكثر صدامية مع بكين، بعدما اعتبرت أن أي هجوم صيني على تايوان يشكّل "تهديداً وجودياً" لليابان.
هذا التصريح أشعل غضب الصين، التي ردت بتهديدات اقتصادية واستفزازات جوية، وصلت إلى توجيه الطائرات الحربية راداراتها نحو مقاتلات يابانية قرب أوكيناوا.
ومع ذلك، فإن واشنطن لم تُظهر دعماً مباشراً لطوكيو بالسرعة المتوقعة؛ فبينما انتظرت اليابان إدانة أمريكية فورية، احتاجت الخارجية الأمريكية أربعة أيام كاملة لتصدر بياناً مقتضباً يحذّر من أن "تصرفات الصين لا تُسهم في الاستقرار الإقليمي".
كما أثار هذا التردد تساؤلات داخل طوكيو حول أولويات ترامب، خاصة في ظل مفاوضاته التجارية مع الصين؛ لكنّ الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تكشف أن دعم تايوان لا يزال محورياً في حسابات واشنطن.
فقد أكد مجلس الأمن القومي أن الولايات المتحدة "لا تؤيد أي تغيير أحادي" في مضيق تايوان، في وقت صادق فيه ترامب على "قانون تنفيذ ضمانات تايوان"، الذي يعزز الحوار السياسي والعسكري مع الجزيرة، تزامناً مع صفقة أسلحة بقيمة 330 مليون دولار.
هذه الخطوات تجعل من طوكيو وسيول شريكين أساسيين في الدفاع عن تايوان، لكنّ درجة الالتزام الأمريكي تجاه كل منهما تختلف بحسب ملفات التعاون والاستعداد للمساهمة في الردع المشترك.
سباق التسلّح الإقليمي
التوقعات الأمريكية واضحة؛ على الحلفاء بذل المزيد من الموارد والقدرات في خدمة الردع، وتنص استراتيجية الأمن القومي صراحة على أن واشنطن "لن تدافع بمفردها"، وأن على اليابان وكوريا الجنوبية "مضاعفة جهودها" في تعزيز قدراتهما العسكرية.
في هذا السياق، تتقدم اليابان بخطى سريعة نحو زيادة إنفاقها الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي قبل الموعد المعلن، إضافة إلى تحديث واسع لقوات الدفاع الذاتي، بما يشمل قدرات الضربة البعيدة.
أما كوريا الجنوبية، فتستهدف 3.5% من الإنفاق الدفاعي، وتعمل على تطوير غواصات تعمل بالطاقة النووية، بموافقة إدارة ترامب، ما يمنحها وزناً أكبر في معادلة الردع البحري.
لكنّ سيول تتحرك بحذر أكبر تجاه الصين، مدفوعة بعلاقات اقتصادية وثيقة ومخاوف من ردود فعل بكين، خاصة في سياق أزمة كوريا الشمالية. وهذا الحذر يجعلها أقل اندفاعاً من اليابان في تبنّي خطاب المواجهة المباشرة مع الصين، لكنه لا يقلل من طموحها لتعزيز مكانتها العسكرية.
مع ذلك، يطرح محللون كوريون رؤية مختلفة؛ كوريا الجنوبية، وليس اليابان، هي الدولة الوحيدة القادرة على نشر أسلحة نووية تكتيكية أمريكية على أراضيها، وهو ما يجعلها في نظرهم "القاعدة المحورية للردع الإقليمي".
ومن أبرز القضايا التي أجّجت التوتر بين البلدين، ما يسمى "مفهوم المسرح الواحد" الذي تتفاوض عليه اليابان مع واشنطن.
هذا المفهوم يهدف لدمج القيادة والسيطرة في شرق آسيا، من شبه الجزيرة الكورية إلى بحر الصين الجنوبي، في إطار عملياتي واحد تقوده طوكيو عملياً.
ترى سيول أن هذا التطور قد يضعف دور القوات الأمريكية في كوريا، ويمنح اليابان موقعاً قيادياً أوسع، في ظل تاريخ معقد من النزاعات التاريخية ومطالب السيادة.
كما يقول الدكتور تشوي كانغ من معهد آسان إن اليابان لا تسعى فقط لتحسين فاعليتها القتالية، بل أيضاً "لتوسيع سلطتها الاستخباراتية والعملياتية في كل مسارح شرق آسيا".
في المقابل، يدعو خبراء كوريون إلى إنشاء مسرح عمليات محوره شبه الجزيرة الكورية، باعتبار أن الأزمات في تايوان وكوريا الشمالية مترابطة، وأن قيادته يجب أن تكون تحت مظلة القوات الأمريكية في كوريا لضمان الموازنة بين الحلفاء.
سباق زعامة في ظل مظلة أمريكية واحدة
تكشف استراتيجية الأمن القومي لترامب عن هدف واضح: تعزيز الردع ضد الصين، مع مطالبة الحلفاء بتحمّل نصيب أكبر من الأعباء؛ لكن النتيجة غير المتوقعة كانت إشعال تنافس بين اليابان وكوريا الجنوبية على من يتولى دور "الشريك القائد" في بنية الأمن الإقليمي.
ولكي تنجح واشنطن في بناء نظام ردع متماسك في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، سيكون عليها، كما يرى الخبراء، إدارة هذا التنافس الحساس بين طوكيو وسيول، والحفاظ على توازن دقيق بينهما، لأنهما يشكلان معاً العمود الفقري للحضور الأمريكي في الشرق الآسيوي، وليس أحدهما دون الآخر.