تعيش أوروبا حالة طوارئ استعدادا لصفقة متوقع أن يتوصل لها الزعيمان الروسي فلايديمر بوتين والأمريكي دونالد ترامب، خلال قمتهما المرتقبة منتصف الشهر الجاري في ألاسكا، والتي تهدد السيادة الاستراتيجية للقارة العجوز، وإثارة الانقسام عبر الأطلسي.
وأثار الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل، يوم 11 أغسطس، تساؤلات كبرى حول مستقبل الأمن الأوروبي.
فبدون الدعم الأمريكي، وأمام دبلوماسية أمريكية – روسية نشطة، يواجه الاتحاد الأوروبي خطر التحول إلى لاعب هامشي في الجغرافيا السياسية.
كاجا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، التي دعت للاجتماع الطارئ، بدت كقائد أوركسترا بلا فرقة. تصريحها بأن "أي اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا يجب أن يشمل أوكرانيا والاتحاد الأوروبي" لم يكن مجرد خطاب سياسي، بل محاولة يائسة لمنع تهميش أوروبا في مفاوضات تحدد أمنها.
ورأى دينيس كوركودينوف الرئيس التنفيذي للمركز الدولي للتحليل السياسي والتنبؤات "ديبيتس" في مقال رأي خص به "إرم نيوز" إن القلق في الكواليس، يخيّم على أروقة بروكسل، فبحسب مصادر مقربة من مكتب كالاس، وصفت الأخيرة قمة ألاسكا المقبلة بأنها "تسوشيما دبلوماسية"، في إشارة إلى الهزيمة الساحقة التي قد يتكبدها الاتحاد إذا استُبعد من العملية.
علناً، تركز كالاس على نقطتين أساسيتين: عدم شرعية أي اتفاق يستبعد الاتحاد وأوكرانيا بحكم قرب النزاع جغرافيا، ورفض تقديم أي تنازلات إقليمية لروسيا قد تمنحها موطئ قدم لعدوان جديد. لكن في الأحاديث المغلقة، وفق دبلوماسيين أوروبيين، كانت أكثر صراحة: "واشنطن تخوننا، وموسكو تسخر منا". وزاد هذا الشعور قتامة بعد إعلان نائب الرئيس الأمريكي، جيه دي فانس، عن إنهاء تمويل الحرب، وهو ما جرد الاتحاد الأوروبي من آخر أوراق الضغط.
وقال كوركودينوف، إن فرص كالاس في توحيد الموقف الأوروبي ضد خطط واشنطن تبدو شبه معدومة، بسبب الانقسامات العميقة داخل الاتحاد. دول "الشمال – البلطيق" الثماني (ومنها السويد وفنلندا ودول البلطيق) أعلنت دعمها لمبادرة ترامب، معتبرة أن التسوية الدبلوماسية تحت رعاية أمريكية ثمن مقبول لوقف الحرب حتى دون مشاركة بروكسل.
أما برلين وباريس، فرغم خطاب التضامن، تبديان تشككا ولا ترغبان في مواجهة مباشرة مع واشنطن. ويقر دبلوماسيون فرنسيون في أحاديث خاصة: بأن"ترامب محق – لم يكن لدى أوروبا أي استراتيجية سوى إمداد أوكرانيا بالسلاح".
ويرجح الخبراء أن ينتهي الاجتماع لا بإنذار حاد، بل بتوصيات فضفاضة. قد تتمكن كالاس من انتزاع توافق على خطاب مشترك يؤكد "حرمة الحدود الأوكرانية"، لكن من دون آليات فعلية لعرقلة اتفاق أمريكي – روسي.
وأوضح كوركودينوف أن هذا الاجتماع لا يعكس حوارا بنّاءً بقدر ما يكشف أزمة منهجية في العلاقات عبر الأطلسي، تهدد بتسريع ثلاثة مسارات خطيرة:
1. تصاعد التوتر مع واشنطن: تصريح فانس عن إنهاء المساعدات العسكرية، قبل اجتماع كالاس بيوم، اعتبرته العواصم الأوروبية تجاهلا متعمدا لمواقف الحلفاء. ويخشى الأوروبيون من موافقة ترامب على ضم القرم أو دونباس؛ إذ سيضع الاتحاد أمام خيار مهين: القبول بالأمر الواقع أو فرض عقوبات على الولايات المتحدة لـ"تواطئها" مع موسكو.
2. اتساع الفجوة بين "أوروبا القديمة والجديدة": دول وسط وشرق أوروبا، خصوصا بولندا ودول البلطيق، تضغط من أجل رد حازم، بينما تميل ألمانيا وفرنسا، المتضررتان اقتصاديا من العقوبات على روسيا، إلى الحلول الوسط.
3. خطر اندلاع حرب تجارية: في حال رفعت واشنطن العقوبات عن روسيا دون التشاور مع الاتحاد، ستكسب الشركات الأمريكية ميزة في السوق الروسية، فيما تواصل الشركات الأوروبية خسائرها بسبب الحظر على الطاقة.
وأشار كوركودينوف إلى أن فرص بروكسل في دخول مفاوضات ألاسكا بين بوتين وترامب شبه معدومة. موقف موسكو واضح تماما: الكرملين استبعد صراحة الاتحاد من العملية، وأكد مساعد بوتين، يوري أوشاكوف، رفض مشاركة زيلينسكي أو كالاس، متمسكا بصيغة ثنائية. روسيا ترى في الاتحاد "طرفا في النزاع" بسبب دعمه العسكري الكبير لكييف. أما واشنطن، فترامب صرّح علنا بأن دعم أوروبا لأوكرانيا "رمزي"، وأن هدفه هو صفقة سريعة تكرس وضع القرم، وتجمد خطوط القتال، وتضمن عدم انضمام أوكرانيا للناتو.
ورأى أن العجز العسكري الأوروبي يعقد الموقف؛ فالاتحاد لا يملك القدرة على فرض شروط سلام لصالح أوكرانيا، ومن دون 60 مليار دولار من المساعدات الأمريكية، لن تصمد كييف طويلًا. الورقة الوحيدة بيد كالاس هي التهديد بـ"فيتو العقوبات" على روسيا، لكن الاتحاد لن يجرؤ على مواجهة ترامب مباشرة خشية انهيار العلاقة مع الولايات المتحدة.
ما بدأ كمحاولة لهجوم دبلوماسي مضاد يبدو أقرب إلى لحظات احتضار النظام الدولي القديم القائم على التعددية. أوروبا تدرك بمرارة أن أمنها لم يعد أولوية أمريكية، وأن التقارب بين واشنطن وموسكو يضعها في موقع المتفرج.
وأشار كوركودينوف إلى أن التوقعات للأشهر المقبلة قاتمة، الموقف الموحد تجاه روسيا سيتآكل، فيما ستشكل دول وسط وشرق أوروبا "تحالفا متشددا" بقيادة بولندا، بينما تتجه ألمانيا وفرنسا لفتح قنوات حوار منفصلة مع موسكو.
وقد كوركودينوف توقعه لما بعد انتهاء القمة المرتقبة، قائلا إن ترامب، بعد صورة تاريخية مع بوتين، سيعلن أنه "أنقذ العالم"، لكن تفاصيل الصفقة ستترك أوكرانيا بلا القرم وبنزاع مجمد في دونباس. وبالنسبة لروسيا، ستكون مكاسب مزدوجة: عسكرية – عبر الاحتفاظ بالأراضي التي سيطرت عليها، ودبلوماسية – عبر تعميق انقسام الغرب وتحويل الاتحاد الأوروبي إلى "شريك صغير" بلا قرار، و أوروبا ستخسر هذه الجولة الجيوسياسية من دون أن تدخل الملعب أصلاً.
وختم كوركودينوف بالقول إن قمة ألاسكا ستكون حكما على أزمة أوكرانيا وعلى مشروع "السيادة الاستراتيجية الأوروبية"، وبروكسل، وللمرة الأولى منذ 70 عاما، تجد نفسها وحيدة أمام تهديدات كبرى، غير مستعدة لواقع جديد لا مكان فيه للتضامن الأطلسي أو أوهام الشراكة المتكافئة.