أطلق الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو" مارك روته تصريحات صادمة تكشف عمق التحديات الجيوسياسية التي يواجهها الحلف، وسط سباق تسلح محموم تقوده موسكو بوتيرة لم تشهدها أوروبا منذ عقود.
ولم يكتف روته بالتحذير من خطورة التوسع الروسي، بل رسم صورة قاتمة لحجم الفجوة العسكرية الآخذة في الاتساع بين روسيا ودول الحلف.
وقال روته، في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز"، إن روسيا باتت قادرة على إنتاج ذخائر خلال 3 أشهر تعادل ثلاثة أضعاف ما تنتجه دول "الناتو" مجتمعة في عام كامل، وهو ما اعتبره مؤشرًا خطيرًا على قدرة موسكو على مواصلة الحرب الطويلة في أوكرانيا، وربما ما هو أبعد منها.
واعتبر خبراء تصريحات روته بأنها تشكل تحذيرًا سياسيًا وعسكريًا يستهدف دفع الدول الأوروبية إلى رفع الإنفاق الدفاعي والتخلي عن البيروقراطية.
ويرى ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، أن تصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو" الأخيرة تكشف عن حالة قلق عميق داخل الحلف تجاه القدرات العسكرية الروسية المتسارعة، واعتبرها بمثابة جرس إنذار سياسي وعسكري يستدعي مراجعة شاملة للاستراتيجيات الدفاعية المعمول بها لدى الدول الأعضاء.
وأكد بريجع لـ"إرم نيوز"، أن جوهر الخطاب ينطوي على رسائل مركبة، أبرزها توجيه نداء داخلي للدول الأوروبية والأطلسية بضرورة رفع مستوى التأهب والإنتاج العسكري.
وأضاف أن هذا التصريح يمثل تحفيزًا مباشرًا للحكومات الأوروبية لاعتماد نمط "اقتصاد عسكري جزئي" مشابه للنموذج الروسي، لا سيما في ظل التحديات المالية والانقسامات السياسية التي تشهدها بعض العواصم الأوروبية.
وتابع أنّ "الخطاب يحمل بعدًا نفسيًا واستراتيجيًا يسعى لترسيخ صورة روسيا كقوة عسكرية متقدمة ذات زخم صناعي هائل، بهدف توحيد صفوف الناتو والحد من الأصوات الأوروبية التي تطالب بتقليص الدعم لأوكرانيا والتركيز على الأولويات الاجتماعية".
وبين مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، أن الرسالة الواضحة الموجهة للرأي العام الأوروبي هي "إما مواجهة التهديد الروسي أو تعريض الأمن الجماعي للخطر"، ما من شأنه إعادة ترتيب أولويات السياسات الداخلية لصالح موقف أطلسي موحد.
ولفت إلى وجود بعد جيوسياسي عالمي في هذه التصريحات، إذ يوجّه الحلف رسائل غير مباشرة لخصومه الآخرين مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية، بأن الناتو وإن كان يعاني فجوة في الكميات المنتجة، فإنه ما زال يعول على تفوقه النوعي والتقني مدعومًا بتماسك سياسي متزايد.
وأشار بريجع إلى البعد الاقتصادي لتصريحات الأمين العام للناتو، خاصة أن تعزيز الإنتاج العسكري سيستلزم تحويل جزء من الصناعات المدنية إلى صناعات دفاعية، ما قد يثير جدلًا واسعًا داخل الاتحاد الأوروبي حول أولويات الميزانية ويعيد ملامح «الاقتصاد العسكري» التي كانت سائدة في حقبة الحرب الباردة.
وأكد أن التصريحات تحمل أيضًا رسائل ضمنية لموسكو بأن الناتو قد يتجه إلى "اقتصاد حرب" إذا واصلت روسيا توسيع قدراتها العسكرية، وهو تحذير غير مباشر بأن الحلف لن يظل مكتوف الأيدي.
وشدد بريجع على أن هذا الخطاب يرتبط بشكل وثيق بمحاولات الأمين العام للناتو إقناع الدول الأعضاء برفع مستوى الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى تنويع خطوط الإمداد وتقليل التعقيدات الإدارية، مشيرًا إلى أن هذا النهج يجمع بين التحذير والتحفيز .
من جانبه، أكد إبراهيم كابان، مدير شبكة الجيوستراتيجي للدراسات، أن ملامح سباق التسلح بين روسيا وأوروبا تعود للواجهة مجددًا، في مشهد يعيد للأذهان أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية والمنافسة المحتدمة بين المعسكر الغربي والاتحاد السوفيتي.
وقال كابان في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز"، إن أوروبا بدأت بالفعل في سلوك هذا المسار، بعد عقود ركّزت فيها على القضايا الاقتصادية بعيدًا عن سباق التسلح، لكن التحركات الروسية أرغمت العواصم الغربية على إعادة النظر في سياساتها الدفاعية.
وأضاف: "إذا قررت أوروبا إعادة تسليح جيوشها، فلن تقل قوتها عن روسيا، لا سيما أن دولًا كبرى مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا تمتلك بنى عسكرية قوية لكنها تحتاج إلى تحديث وتطوير".
واعتبر كابان أن ما يحدث اليوم ليس مجرد حرب باردة بالمعنى التقليدي، وإنما "حرب تحضيرية للمستقبل" لن تتوقف عند حدود أوكرانيا، مشددًا على أن موسكو لن تكف عن الرد، وهو ما يدفع نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب قد تصبح فيه روسيا والصين قوتين موازيتين للغرب خلال فترة قصيرة.
وأشار إلى أن تصريحات الأمين العام للناتو حول خطورة التحديات الجيوسياسية تعكس مخرجات الحرب الروسية الأوكرانية والتمدد الروسي داخل الأراضي الأوكرانية، وهو ما يثير مخاوف الدول الأوروبية من تقدم موسكو نحو الشرق.
وتساءل كابان: "إذا أنفقت أوروبا المزيد من الأموال على حلف الناتو، فهل سيكون ذلك كافيًا لحمايتها؟"، مؤكدًا أن تكاليف الحلف باهظة، وإذا واصلت الحكومات الأوروبية ضخ التمويل بتوسع فقد تضطر إلى تقليص ميزانياتها العسكرية الوطنية.
وأوضح أن أوروبا تقف أمام معضلة حقيقية، إذ ينبغي عليها الموازنة بين تعزيز قدرات الناتو وتقوية جيوشها الوطنية، في وقت تتجه فيه العلاقات الدولية نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب يفرض تحديات غير مسبوقة.