أكّد خبراء متابعون للشأن الأمريكي اللاتيني أنّ الخطابات السياسية اللاذعة التي توجّه بها رؤساء بعض الدول اللاتينية للسياسة الأمريكية والإسرائيلية، تعبّر في المحصلة عن امتعاض وتبرم شديدين من سياسة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي جمعت بين استمرار العقوبات الاقتصادية، وتسليط الضغوطات الجمركية، والتلويح باستعمال القوة العسكرية في المنطقة اللاتينية.
واعتبر المتابعون أنّ الخطاب شديد اللهجة وغير المسبوق الذي توجه به كلّ من الرئيس الكولومبي غوستافو بيدور، والرئيس التشيلي غابريل بوريك، والبرازيلي لولا دا سيلفا، ضدّ الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، من على سدّة الجمعية العامة للأمم المتحدة، هو تعبير عن توجّه استراتيجيّ لاتيني شبه كامل نحو الشرق، سواء أكان هذا الشرق قضية مثل القضية الفلسطينية أو فاعلين سياسيين واقتصاديين مثل الصين وروسيا.
وتعاني عدّة دول لاتينية من ويلات عقوبات اقتصادية كثيرة، وتأتي على رأس هذه الدول فنزويلا وكوبا وبدرجة أقلّ نيكاراغوا وهايتي، وهي عقوبات جدًّا قاسية لامست العصب الاقتصادي للدولتين الأوليين، من حيث إنها تقيّد حركة السلع توريدًا وتصديرًا، وتجمّد الأصول المملوكة للكيانات الحكومية أو للأفراد الذين يمثلون الدولة، وبالتالي منع هذه الأصول من التحرك ضمن النظام المالي الأمريكي، ومنع البنوك المركزية للدول الحليفة لأمريكا من التعامل مع هذه الدول المعاقبة.
وقد زاد هذا الحصار تطويقًا بعد اعتماد الرسوم الجمركية على صادرات السلع الأجنبية، وقد نالت دول أمريكا اللاتينية قسطًا لا بأس به من الرسوم الجمركية التي وصفها بعض المسؤولين ب"المجحفة" و"القاسية" والعاجزة عن جلب التنمية والازدهار التجاري لواشنطن.
وكانت النسبة الأعلى من الرسوم الجمركيّة على الواردات من البرازيل حيث تمّ تسليط رسوم جمركية تتراوح ما بين 10 إلى 50 بالمئة، فيما تراوحت نسبة الرسوم لنيكاراغوا ب18 بالمئة.
أمّا بوليفيا، والإكوادور، وكوستاريكا، وفنزويلا، وغيانا، فبلغت النسبة 15 في المئة، والمكسيك 25 في المئة، بالنسبة للسلع والمنتوجات التي لا تشملها الاتفاقيات التجارية الثنائية.
كما لم تكن كولومبيا بمنأى عن الرسوم الجمركية، حيث تمّ فرض نسبة 10 في المئة على صادراتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي اعتبره الرئيس الكولومبي، بيترو غوستافو، حينها خطأ كبيرًا وموتًا لليبرالية جديدة، على حدّ وصفه.
وقد وجدت هذه الرسوم الجمركية الثقيلة على بلدان أمريكا اللاتينية، لا سيما على البرازيل، صداها في خطاب الرئيس لولا دا سيلفا الذي تحدّث خلال خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدّة عن محاولات واشنطن خنق الاقتصاد البرازيلي وافتعال أزمات اجتماعية في بلاده.
حيث انتقد دا سليفا القيود الاقتصادية الأمريكية على بلاده معتبرًا أنّها محاولة خنق لاقتصاد البرازيل وتعطيل دوره في الأسواق العالمية.
كما أشار في معرض حديثه إلى أنّ العقوبات لا تؤثر على الحكومات بقدر ما تؤذي الشّعوب وتعمّق الفقر، مؤكدًا أنّ البرازيل ستواصل بناء تحالفاتها التجارية بعيدًا عن الضغوط السياسية، داعيًا إلى نظام عالمي أكثر عدلًا يتيح للبلدان النامية فرصًا متكافئة للنمو.
بالتوازي مع كلّ ما سبق، يظهر استعراض القوة العسكرية على سواحل الكاريبي، وقبالة الشواطئ الفنزويلية، والحشد العسكري الاستثنائي لأمريكا، كتلويح بالعصا دون أيّ إشارة إلى الجزرة.
ووفق المُراقبين ذاتهم، فإنّ إقدام واشنطن على إدراج الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، على قائمة المطلوبين وتخصيص جائزة 50 مليون دولار للمساعدة على القبض عليه، واتهامه بالضلوع في تجارة المخدرات، واستهداف قوارب بادعاء أمريكي أنها جزء من سلاسل التهريب البحري للمخدرات إلى الولايات المتحدة، يُشير إلى تضييق واضح من إدارة ترامب على العواصم اللاتينية عامة وفنزويلا خاصة، وسعيها إلى تنظيف حديقتها الخلفية من اليسار اللاتيني.
وربط المراقبون بين هذا التصعيد العسكري والضغط الاقتصادي الأمريكيين الواضحين والاستحقاقات الانتخابية القادمة في 2026، في عدّة دول وعلى رأسها كولومبيا والبرازيل، وهي دول تسعى واشنطن إلى إسقاط الرؤساء اليساريين والحكومات اليسارية فيها وتقديم حلفائها هناك.
إذ تؤدي العقوبات الاقتصادية والإجراءات التجارية القاسية أدورًا لا بأس بها في اللعبة الانتخابيّة، خاصة وأنّ الفقر والخصاصة والفوارق الاجتماعية قد تكون ورقة انتخابية جدًّا هامة في الاستحقاقات الاقتراعية القادمة.
وفي مفصل بيان شدّة وطأة الإجراءات الأمريكية على الاقتصاد البرازيلي، تؤكد المصادر البرازيلية أنّ الرسوم الجمركية تُؤثر بشكل عامّ على 36% - أي في المعدّل- من صادرات البرازيل إلى الولايات المتحدة، بما يُعادل 14.5 مليار دولار أمريكي في عام 2024.
وسبق أن قلبت الملفات الاقتصادية في البرازيل وفي الكثير من دول أمريكا اللاتينية التوازنات الانتخابية لصالح مرشح الولايات المتحدة الأمريكية، أو على الأقل لم تذهب لصالح منافسها المباشر وعدوّها الواضح.
حيال هذا المشهد، بدأت عدّة دول لاتينية في تجذير خياراتها المشرقيّة وتكريسها كرؤى ومقاربات وسياسات استراتيجية عميقة، بعد أن اتضح جليًا لديها صعوبة خيار تعدّد الشراكات وتنوع الحلفاء في ظلّ إدارة ترامب.
ويستحضر المراقبون في أمريكا اللاتينية في هذا السياق مقولةً جوهريةً للكاتب والمحلل السياسي محمد حسنين هيكل في كتابه الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق قوامها أنّ واشنطن لا تؤمن بالشركاء والحلفاء أكثر من إيمانها بالأتباع.
يشير المتابعون إلى أنّ العديد من دول أمريكا اللاتينية استشعرت عقب الرسوم الجمركية، قيمة تعدد الشركاء الاقتصاديين وخطورة وضع كلّ البيض الاقتصادي والتجاري في السلة الأمريكية، وأنّ الصين تطرح نفسها كشريك موثوق به لدول أمريكا اللاتينية، من خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية معها، والاستفادة من الفرص التجارية والاستثمارية.
ويعتبر الخبراء الاقتصاديون البرازيليون أنّه كان بإمكان وطأة الرسوم الجمركية الأمريكية أن تكون أشدّ على الاقتصاد البرازيلي لو أنّ الحكومة البرازيلية لم تتخذ منذ عقدين على الأقل خيار تنويع الشركاء والانضمام إلى تحالف "بريكس" للقوى الاقتصادية الصاعدة، وهو تحالف مكنها من تخفيف وطأة الإجراءات الاقتصادية الأمريكية، التي تبقى دائمًا شديدة وقاسية على البرازيل.
ويؤكد المتابعون الاقتصاديون أنّ الخيار الصيني سيزداد قوّة ورجحانًا مع الانعطافة التجارية الأمريكية حيال دول أمريكا اللاتينية.
ويبدو أنّ الخطّ الاقتصادي الرابط بين عواصم أمريكا اللاتينية وبكين، بات جذابًا للكثير من الحكومات في المنطقة، حيث انضمت 20 دولة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي إلى مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، كما أدّى 8 رؤساء من أمريكا اللاتينية زيارات رسمية إلى الصين خلال 2023 فقط، وشهدت العلاقات التجارية بين بكين ودول المنطقة قفزة هائلة، وتتوقع التقديرات الاقتصادية أن تتجاوز 700 مليار دولار بحلول 2035.
وتبسط الأرقام رسمًا تصاعديًا للتوسع الاقتصادي الصيني في أمريكا اللاتينية، حيث كان في عام 2000 في حدود 12 مليار دولار، ثمّ تطوّر إلى 180 مليار دولار في 2010، ثم قفز إلى 450 مليار دولار عام 2021، وسيتجاوز كما ذكرنا آنفًا سقف 700 مليار دولار في 2035.
وبهذه الأرقام، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لدول أمريكا الجنوبيّة وثاني أكبر شريك لأمريكا اللاتينية برمتها والتي تضم الدول المتحدثة باللغات واللهجات اللاتينية كافة، كما أصبحت الصين المصدر الرئيس للإقراض والاستثمار الأجنبي المباشر في أمريكا الجنوبية في مجالات الطاقة والبنية الأساسية.
ووفق مصادر اقتصادية صينية فإنّ بكين استولت على الشركات والمناجم الأساسية المتعلقة بمعدن الليثيوم كافة في أمريكا اللاتينية، خاصة منها في البرازيل والأرجنتين وبوليفيا وتشيلي.
وتعتبر بكين الليثيوم مجالًا حيويًا اقتصاديًا، حيث يرتبط بشبه احتكارها لصناعة بطاريات الهواتف الذكية وأجهزة الحواسيب، خاصة السيارات الكهربائية.
وفق المصادر ذاتها، فإنّ الصين استثمرت خلال العقدين الأولين من الألفية الثالثة 73 مليار دولار في قطاع المواد الخام بأمريكا اللاتينية، وهو قطاع استوعب الفحم والنحاس والغاز الطبيعي والنفط واليورانيوم وغيرها.
ويعتبر الخبراء والمتابعون للشأن اللاتيني، أنّ حدّة الخطاب اللاتيني حيال واشنطن وتل أبيب والذي شاهد العالم شذرات منه على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، من شأنه أن يزيد تكرسًا وتجذرًا وراديكالية في ظلّ استمرار إدارة ترامب في تسليط العقوبات والضغوطات على الحكومات اللاتينية وفي ظلّ اليد الصينية الممدودة والتي باتت في الحدائق الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية.