حافظت أوروبا طوال عقود على نموذج سياسي يقوم على الانفتاح وحماية الحريات، سمح بنمو الكثير من التيارات والمؤسسات، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين التي استغلت هذا المناخ "المتساهل" للتغلغل في بنية المجتمع الأوروبي المتعدد والمتنوع.
لكن هذه البيئة المتسامحة بدأت تتقوض عبر القارة، جراء عوامل ومعطيات معقدة، إذ كشفت تقارير استخبارية أن الإسلام السياسي، وخصوصا الإخوان، يشكل تهديدا للقيم الأوروبية ويكرس للتطرف والكراهية والانقسام.
وبدأ هذا التحول، تدريجيا، مع أزمة اللجوء الكبرى عام 2015 ، إذ شهدت أوروبا تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين من الشرق الأوسط وأفريقيا، بما في ذلك أعداد لا يستهان بها من المسلمين القادمين من مرجعيات وثقافات مختلفة عن ثقافة الضيوف.
وتقول مصادر خاصة إن جماعة الإخوان وجدت في "الهجرة" فرصة لتوطيد نفوذها، حيث سعت إلى استثمار هذه الأعداد البشرية لصالح أهدافها الخاصة، ومصالحها الضيقة بعيدا عن مصالح الدولة المضيفة، وهو ما خلق بيئة أوروبية أكثر تشددا مقارنة بما كان عليه الوضع من قبل.
وتقود مسألة الهجرة إلى قضية أخرى منبثقة عنها، وهي صعود اليمين المتطرف الذي كان مجرد قوة هامشية في المشهد السياسي الأوروبي، لكنه بدأ يحقق، في الآونة الأخيرة، مكاسب انتخابية لافتة، عبر رفع شعارات معادية للهجرة التي تركت تداعيات سلبية على القطاعات الإدارية والخدمية والصحية والتعليمية.
وفي ألمانيا، على سبيل المثال، ورغم أن حزب "البديل من أجل ألمانيا"، اليميني المتطرف ينشط خارج التحالفات الحكومية الرئيسة، لكنه حجز مكانا مهما في النقاش السياسي وفي الفضاء العام، إذ يربط في خطابه بين الإسلام السياسي وبين الخطر على الهوية والثقافة الغربية.
وتوضح المصادر الخاصة أن هذا الصعود اليميني شكل، بدوره، عاملا مهما من عوامل التغيير في الموقف الأوروبي المتساهل تجاه الإخوان، حتى أن الأحزاب التقليدية شرعت في استعارة خطاب اليمين كي لا تخسر قاعدتها الانتخابية.
تقول المصادر الخاصة إن المؤسسات الأمنية والاستخبارية الأوروبية غيرت قواعد اللعبة فبعد عقود من "التراخي" والتعامل الإنساني والسياسي البحت مع تيارات الإسلام السياسي، بدأت تتعامل معها وفق منطق أمني شديد الحذر والتوجس.
وتعزو المصادر الخاصة هذا التحول إلى ممارسات الإسلام السياسي التي أظهرت نزعات لا علاقة لها بالأجندة الوطنية في هذه الدولة الأوروبية أو تلك، ناهيك عن أن "هجمات إرهابية دامية" نسبت إلى متشددين إسلاميين عززت هذا الاتجاه.
ويلاحظ مراقبون أن تفاقم المخاوف الأمنية أدت إلى توسيع صلاحيات أجهزة الاستخبارات والشرطة، التي باتت تمتلك سلطات أكبر لمراقبة الأحزاب، والجمعيات التي تتخذ من الجانب الإنساني والديني غطاء لأغراض وأهداف سياسية، في نهاية المطاف.
وتلفت المصادر الخاصة إلى نقطة أساسية وهي ضرورة "عدم التغافل عن أن جماعة الإخوان نفسها لم تكن على قدر الثقة التي منحت لها، بل استهترت بقوانين وقيم الدول المضيفة، وراحت تبني "غيتوهات" معزولة ومغلقة في مجتمعات منفتحة تحترم الآخر وتتمسك بقيم التعدد والتنوع والاختلاف.
وتبين المصادر أن مثل هذا السلوك "الانتهازي" من جانب الإخوان، أجبر الحكومات الأوروبية على مراجعة سياساتها المرنة، خصوصا وأن ثمة من يستخدمها على نحو سيئ.
وبالتوازي مع البعد الأمني المستجد، شرعت الدول الأوروبية في تتبع مصادر التمويل للمؤسسات والجمعيات التي تنشط على أراضيها، بعد أن رأت في تلك المؤسسات تهديدا سياديا بسبب تمويلات مجهولة المصدر.
وتكشف المصادر أن المعني، بالدرجة الأولى، بهذه الإجراءات هي جماعة الإخوان التي بنت "إمبراطوريات في الظل"، ونسجت شبكات تمويل معقدة ومتهمة بشبهة "غسيل الأموال".
وتقول المصادر الخاصة إن أحد أبرز أسباب التحوّل في النظرة الأوروبية تجاه "الإسلام السياسي" هو القلق من شبكات التمويل الأجنبي والتواصل العابر للحدود، مشيرة إلى أن تقارير استخبارية تكشف أن الإخوان بنوا شبكة مؤسسات على مستوى القارة، دون التزام بمبدأ الشفافية والقوانين السارية.
وكان تقرير حكومي فرنسي أظهر أن أنشطة جماعة الإخوان تعد "تهديدًا لوحدة المجتمع الفرنسي" وسعيا لإعادة تشكيل المجتمع من الداخل، بما يتناسب مع طروحاتها وعقيدتها، وهو ما دفع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الدعوة لخطة وطنية لمواجهة هذا "التهديد الأيديولوجي".
السلطات الألمانية، بدورها، تصف جماعة الإخوان بأنها أحد أخطر تحديات الإسلام السياسي، وحتى لو لم يعلن حظرها رسميا بعد، لكنها قامت بحظر بعض المنصات المرتبطة بالإسلام السياسي، وشددت آليات المراقبة والملاحقة.
وتشير تقارير وتحقيقات صحفية إلى أن ما لا يقلّ عن سبع دول أوروبية باتت تعمل على ملفات رسمية لمراجعة وضع جماعة الإخوان وأنشطتها على أراضيها، من بينها ألمانيا، وفرنسا، والنمسا، وبلجيكا، وأيرلندا...ومن المرجح أن تنضم دول أوروبية أخرى إلى القائمة، وهو ما سيعزز من تأثير الإجراءات ضد الإسلام السياسي مستقبلا.
وترى المصادر أن إجراءات الأجهزة الأمنية والاستخبارية الأوروبية تعكس فهما جديدا يتمثل في أن جماعة الإخوان ليست مجرد جمعيات دينية أو ثقافية أو حتى دعوية، كما تروج، وإنما شبكة فاعلة لها أهداف أوسع من مجرد ممارسة الشعائر، وتطمح إلى غايات "عابرة للحدود" تتجاوز حدود التكتل الأوروبي.
وتضيف المصادر أن الجمعيات المرتبطة بالإخوان تمارس تأثيرا على قطاعات واسعة من المجتمع الأوروبي من خلال برامج وأفكار تتجاوز الأبعاد الدينية التقليدية، وبالتالي فهي لم تعد مجرد منابر دعوية معتدلة، بقدر ما هي هياكل سياسية تروج للتطرف وهو ما يهدد الاستقرار الأوروبي.
ووفقا لهذه الحقائق ترجح مصادر خاصة أن المزيد من الدول الأوروبية ستنضمّ إلى جهود تصنيف التنظيمات المرتبطة بالإخوان كـ "تهديد للسيادة والدستور".
وتذهب المصادر الخاصة إلى أبعد من ذلك، إذ توضح أن الاتحاد الأوروبي نفسه قد يدرس في السنوات القادمة تصنيفا مشتركا لـ الإخوان أو فروع مرتبطة بها كـ"منظمة تمثّل خطرا أمنيا وأيديولوجيا"، وبالتالي حظرها نهائيا.
وتعرب المصادر الخاصة عن اعتقادها بأن ثمة قناعة بدأت تترسخ في الذهنية الأوروبية تتمثل في أن جماعة "الإخوان عبارة عن "قنبلة موقوتة" قد تنفجر في أي لحظة، وهو ما يفسر الاستنفار الأوروبي لاحتواء هذا الخطر.
وتستنتج المصادر الخاصة أن هناك تآكلا واضحا في النموذج الأوروبي المتسامح الذي احتضن الإخوان وغيرها لعقود، وهو ما يعني أن الملاذ الأوروبي يتصدع أمام تشييد الدولة الأمنية.