في أواخر مايو 2025، حينما أعلنت بروكسل عن استراتيجيتها الجديدة تجاه البحر الأسود، بدا الأمر كما لو أن الاتحاد الأوروبي يفتح بابًا كان مغلقًا لعقود، ليس فقط لأن الخطوة بدت استجابة للتحدي الروسي المتصاعد فحسب، بل لأنها طرحت سؤالاً ظلّ من المحظورات السياسية في القارة "هل يمكن لأوروبا أن تُصبح قوةً عسكرية قائمة بذاتها، بعيدًا عن المظلة الأميركية التي يوفرها حلف شمال الأطلسي؟".
وفي تقريرٍ للمعهد الملكي للخدمات المتحدة "روسي"، فإن البحر الأسود منذ ضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، بدا مساحة صراعٍ مفتوحة، لكن الحرب الشاملة في أوكرانيا منذ 2022 حوَّلت المنطقة إلى بؤرة تهديدٍ أمني مستمر، وفي مواجهة هذا، تكشف الاستراتيجية الجديدة للاتحاد الأوروبي أن بروكسل لا تُريد الاكتفاء بالبيانات السياسية أو العقوبات الاقتصادية، بل تُفكِّر عمليًا في بنيةٍ دفاعية مرتبطة مباشرةً بأمنِها القومي، ذلك أن نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية، كايا كالاس، أقرَّت بأن "أمن البحر الأسود حيوي أيضًا للأمن الأوروبي".
إنشاء مركزٍ أمني بحري في البحر الأسود، أشبه بغرفة إنذارٍ مبكر، ليس مجرد مشروعٍ تقني، إنه مؤشرٌ على محاولة أوروبا امتلاك أدوات دفاعٍ خاصةٍ بها، بعيدًا عن الاعتماد الحصري على الناتو؛ فالحديث هنا لا يتعلَّق فقط برادارات أو مراقبة أقمارٍ اصطناعية، بل بقدرةٍ على اتخاذ قرارٍ أمني مستقل داخل فضاءٍ حساس ومفتوحٍ على احتمالات التصعيد.
ويرى مُعلِّقون أن التحوُّل نحو موقفٍ أكثر جرأة، يعكس إدراكاً متناميًا داخل الاتحاد أن المظلة الأمريكية لم تعُد مضمونةً كما كانت؛ نظرًا لانشغال الإدارة في واشنطن بملفاتٍ داخلية وانتخابات، وفي كلِّ مرةٍ تُلوّح الولايات المتحدة بتقليص التزاماتها، يزداد القلق في العواصم الأوروبية.
وفي السياق ذاته، فإن هذه المخاوف ليست مجرَّد هواجس نخبٍ سياسية؛ إذ لطالما لاح شبح الحرب في كلٍّ من رومانيا وبلغاريا وجورجيا، مُعبِّرًا عن حاجةٍ واضحة لـ"حمايةٍ أوروبية حقيقية، لا مجرَّد تصريحات تضامنٍ من بروكسل".
لكن الطموح العسكري الأوروبي يُواجه تحديات كبيرة؛ إذ إن الكتلة الأوروبية ليست متجانسةً، وبينما تدفع فرنسا باتجاه تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية المستقلة، فإن بولندا ودول البلطيق ما زالت ترى أن أيّ ابتعادٍ عن الناتو يُشكِّل مغامرةً خطيرة، وبالنسبة لهم فإن الضمانة الأمريكية لا بديل لها.
هذا الانقسام يعكس معضلة أوروبا الأعمق "كيف يُمكن لها أن تتحوَّل إلى قوةٍ عسكرية متماسكة بينما تختلف رؤاها حول معنى الأمن ذاته؟"، وقد يكون البحر الأسود بكلِّ تعقيداته، نقطة اختبار؛ فإذا نجحت الكتلة في صياغة حضورٍ أمني فعَّال هناك، ربَّما يفتح ذلك الباب أمام نقاشٍ أوسع حول بناء “جيشٍ أوروبي” أو منظومة دفاعية مستقلة.
من الزاوية الأخرى، يطرح المشهد تحديًا إضافيًا؛ إذ لم تعُد روسيا وحدها الخصم الرئيسي، كما أن تركيا تُمارس نفوذًا واسعًا، وتستثمر الصين في الموانئ والممرات اللوجستية، والهند ودولٌ أخرى كذلك تبحث عن حصَصِها الاقتصادية؛ لذلك فإن هذا التعدُّد في اللاعبين يجعل البحر الأسود مسرحًا لمعادلاتٍ متشابكة، يصعُب فيها على أوروبا فرض هيمنةٍ منفردة ما لم تمتلك قوةً صلبة على الأرض والبحر.
في هذا السياق، يعتقد الخبراء أن الاستراتيجية الأوروبية تطرح نفسها كخطوةٍ دفاعية ولكنها في العمق تحمل نزعةً هجوميةً مبطَّنة، أساسها الرغبة في إعادة رسم قواعد اللعبة الإقليمية، وإثبات أن بروكسل ليست مجرَّد تابعٍ لقرارات واشنطن أو رهينة لموازين الناتو.
التحدي الأكبر أمام الاتحاد ليس صياغة الخطط، بل تنفيذها؛ ولاسيَّما أن التجارب السابقة مثل “مبادرة التآزر في البحر الأسود 2008” أو “الشراكة الشرقية”، أظهرت عجزًا عن التحوّل من الخطاب إلى الفعل، واليوم، إذا لم يُترجَم الحديث عن مركزٍ أمني ومراقبةٍ للبنى التحتية إلى حضورٍ فعْلي يحمي الموانئ والكابلات البحرية وخطوط الطاقة، فإن الاتحاد سيخسر مصداقيتَه مجددًا، وربَّما يترك فراغًا تملؤه موسكو أو بكين بسهولة.
وراء كلّ هذه النقاشات الكبرى، هناك مخاوف يومية، تنتظر أن تتحوَّل وعود بروكسل إلى حمايةٍ حقيقية من الصواريخ الروسية؛ لذلك فإن نجاح الاستراتيجية الجديدة لن يُقاس فقط بالصفحات التي كُتِبَت في بروكسل، بل بمدى قدرة أوروبا على تحويل خطابها الدفاعي إلى مظلة أمانٍ يشعر بها سكان البحر الأسود.
السؤال الذي كان من المحرمات في السياسة الأوروبية – هل يُمكن للاتحاد الأوروبي أن يكون قوةً عسكرية مستقلة؟ – يُطلُّ اليوم من نافذة البحر الأسود؛ خصوصًا أن الاستراتيجية الجديدة لا تُجيب بشكلٍ مباشرٍ، لكنها تكسر الصمت الطويل وتفتح النقاش، وإذا ما استطاعت أوروبا أن تُثبت نفسها هناك، فقد يتحوَّل البحر الأسود إلى بداية رحلةٍ نحو استقلالٍ عسكري أوروبي، ورغم أنها رحلةٌ محفوفة بالتحديات، لكنها قد تُعيد تعريف معنى الأمن في القارة العجوز.