لم يشهد التحالف التقليدي الوثيق بين ضفتي الأطلسي هذا القدر من الهشاشة وانعدام الثقة كما هو عليه اليوم، فالعلاقة التي شكّلت، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أحد أعمدة الاستقرار الدولي، باتت محكومة بتناقضات عميقة تفتح الباب، للمرة الأولى، أمام احتمال انفراط عقد الشراكة الوطيدة.
وطوال العقود الثمانية الماضية، لم يكن هذا التحالف مجرد تفاهم سياسي عابر، بل شراكة شاملة نهضت على 3 ركائز متداخلة: أولاها، الدفاع الجماعي في إطار حلف الناتو، والثانية التعاون الاقتصادي، والثالثة التقارب الأيديولوجي بين دول الغرب الرأسمالي "الليبرالي"، في مواجهة الاتحاد السوفيتي "الشيوعي"، ووريثته اللاحقة روسيا.
ويلاحظ خبراء أن هذا التماهي السياسي والاقتصادي التام بين ضفتي الأطلسي، طوال عقود، وفَّر للقارة العجوز مظلة أمنية راسخة، وسط توافق غير معلن بأن واشنطن هي "القائدة" للنظام الغربي، غير أن الشكوك بدأت تطل برأسها، لتهدد "متانة الحلف".
ويشير الخبراء إلى أن هذه الشكوك لم تظهر على نحو مفاجئ، بل هي نتيجة لتراكمات قادت إلى هذه اللحظة الحرجة، فمنذ نهاية الحرب الباردة، مطلع تسعينيات القرن الفائت، استثمرت أوروبا في "بيئة السلام المواتية"، إذ خفضت إنفاقها العسكري وكرست لنموذج "دولة الرفاه"، بينما حافظت واشنطن على دور الضامن الأمني للقارة.
لكن، ومع مرور الوقت، نشأ اختلال في تقاسم الأعباء، بحسب خبراء، فشرعت واشنطن في الشكوى بأن المعادلة ليست عادلة بالنسبة لها، ولا بدَّ من تغييرها.
وتعززت هذه القناعة في أروقة البيت الأبيض مع التحولات الكبرى في ميزان القوى العالمي، فصعود التنين الصيني، وتحول مركز الثقل الأمريكي نحو شرق آسيا، وتفاقم ملفات الشرق الأوسط وضرورة البحث عن حلول تلبي مصالح واشنطن في تلك المنطقة المضطربة، دفعت الأخيرة إلى إعادة تقييم أولوياتها.
ويلاحظ الخبراء أنه في ظل هذا التصور الأمريكي الجديد، فإن أوروبا لم تعد شريكًا متكافئًا بقدر ما باتت عبئًا أمنيًّا وسياسيًّا مكلفًا.
وجاءت إدارة دونالد ترامب لتعبّر عن هذا التحول بلغة فاقعة وصدامية غير مسبوقة في تاريخ العلاقات عبر الأطلسي، إذ أشهر ترامب شعار "أمريكا أوَّلا"، وشكّك، صراحة، في جدوى الدفاع عن الأوروبيين، ووصَفَ زعماءَهم بـالضعف"؛ ما أحدث صدمات في بروكسل ليس بسبب مضمون الانتقادات فحسب، بل بسبب كسر "التابوهات" المؤسسة للتحالف.
أحيت الحرب الأوكرانية، لدى نشوبها، صورة الغرب الموحد، وخصوصًا عندما كان الرئيس الأمريكي الأسبق جو بايدن في سدة الحكم، لكن طول أمد الحرب كشف هشاشة هذه الوحدة واعتمادها المفرط على القيادة الأمريكية، ناهيك عن ظهور انقسامات داخل التكتل الأوروبي حيال الملف الأوكراني.
ويشير الخبراء، هنا، إلى أن الحرب الأوكرانية برهنت على أن أوروبا، رغم ثقلها الاقتصادي، لا تمتلك الأدوات العسكرية والاستخباراتية اللازمة لإدارة صراع يجري على حدودها دون دعم أمريكي مباشر، وهو ما شكل انذارًا للأوروبيين بـ "محدودية دورهم".
وفي ظل هذه الحقائق شرعت أوروبا، حسب خبراء، في البحث عن دور أوسع وأكثر استقلالية على المسرح الدولي، وهو ما أعاد إلى الواجهة أسئلة مهمة حول مدى إمكانية استمرار الصيغة التقليدية للتحالف بين ضفتي الأطلسي، التي أسست لها خطة مارشال.
عندما أطلق وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال عام 1947 الخطة التي عرفت باسمه، لإعادة إعمار أوروبا المدمّرة، فإن الخطة كانت أكثر من مجرد تمويل اقتصادي، بل أسست لعقد سياسي شامل ربط تعافي أوروبا واندماجها في منظومة ليبرالية واحدة بالقيادة الأمريكية.
غير أن هذا الترابط الذي كرسته خطة مارشال تحول مع الزمن إلى علاقة غير متكافئة، بحسب خبراء، تتطلب تغييرًا.
وينعكس هذا التحول والاستياء، بشكل جلي، في التصريحات الأمريكية "النارية" تجاه أوروبا، إذ تربط واشنطن الالتزام داخل الناتو برفع الإنفاق الدفاعي الأوروبي إلى مستويات غير مسبوقة وهو يعني عمليًّا نهاية حقبة "الأمن المجاني".
ويلاحظ الخبراء أن أوروبا، من جهتها، تبدو مدركة لهذا التحول، فقد صدرت عن قادة أوروبيين تصريحات متقاربة في معناها، تؤكد أن القارة لم يعد أمامها خيار سوى تحمّل مسؤوليتها الأمنية بشكل مستقل، وأن الاعتماد المطلق على الضمانات الأمريكية لم يعد مقبولًا.
وطرحت، في هذا السياق، الكثير من المشاريع الدفاعية والأمنية وخصوصًا من جانب باريس وبرلين بهدف تعزيز مفهوم "الاستقلالية الإستراتيجية الأوروبية"، وهو مفهوم دخل حديثًا القاموس السياسي الأوروبي لوصفه التعبير الأبلغ عن القلق الأوروبي من تآكل المظلة الأمنية الأمريكية.
ويشير الخبراء إلى أن المحور الفرنسي، الألماني يبرز كركيزة محتملة لأي مشروع أمني أوروبي، ففرنسا، باعتبارها القوة النووية الوحيدة داخل الاتحاد بعد خروج بريطانيا، تحاول لعب دور القائد الإستراتيجي، بينما أعلنت ألمانيا "تحولًا تاريخيًّا" عبر زيادة غير مسبوقة في إنفاقها الدفاعي.
وفي موازاة ذلك، تجتهد أوروبا في تنويع شراكاتها الدولية تحسّبا لأي فراغ أمريكي، سواء عبر بريطانيا أو عبر قوى أخرى مثل كندا واليابان وأستراليا، غير أن خبراء يرون أن هذه الشراكات، مهما تعززت، تبقى مكملة للدور الأمريكي لا بديلة له.
وما يكبل قدرة أوروبا على لعب أدوار مؤثرة، وفقًا لخبراء، هو الانقسامات الداخلية الأوروبية، فدول شرق أوروبا ترى في الولايات المتحدة الضامن الوحيد لأمنها في مواجهة روسيا، وثمة دول أخرى، مثل: هنغاريا وسلوفاكيا، تنجذب نحو روسيا، بينما تواجه دول الجنوب، مثل: اليونان وإيطاليا واسبانيا، تحديات مختلفة تتعلق بالهجرة، لتظل دول أوروبا الغربية هي المعنية بتحمل تكاليف أمن القارة.
وحتى بالنسبة للناتو الذي يُعد الضامن الوحيد للحفاظ على الشراكة الأطلسية، فإن خبراء يرون أن مستقبله مرهون إلى حد كبير بالسياسات الأمريكية، محذرين من أن أي نزعة انعزالية أو براغماتية تظهر لدى هذه الدولة أو تلك، قد تقوض فاعلية الناتو.
ورغم كل ما سبق، يستبعد الخبراء نهاية وشيكة للتحالف الأوروبي الأمريكي، لكنهم يشددون على أن بقاءه بصيغته القديمة يبدو مستحيلًا.
وبهذا المعنى، فإن السؤال الجوهري لم يعد ما إذا كان التحالف سينهار، بل كيف سيتغير؟ وعلى أي أسس جديدة ستُعاد صياغة العلاقة بين ضفتي الأطلسي في عالم يصعب التنبؤ بمستجداته وتحولاته.