ترامب يعلن أنه سيوجّه "خطابا إلى الأمة" الأربعاء
في وثيقة وصفها المؤرخ البريطاني تيموثي غارتون آش بأنها "أم جميع أجراس الإنذار لأوروبا"، كشفت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استراتيجية أمن قومي غير مسبوقة تقلب التاريخ رأسًا على عقب.
وفقا للوثيقة البالغة 33 صفحة، والمنشورة يوم 4 كانون أول/ ديسمبر 2025، أوروبا، وليس روسيا، هي التهديد الرئيسي للولايات المتحدة. ما يمثل قطيعة جذرية مع 80 عامًا من التحالف عبر الأطلسي، وتعلن نهاية دور أمريكا كحامية للنظام العالمي الليبرالي.
"ثلاث صفحات مليئة بالحقد"، هكذا وصفت المحللة السياسية بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية سيلفي ماتيلي، القسم المخصص لأوروبا في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة. فيما تراوحت ردود الفعل الأوروبية، التي جاءت بعد صمت أولي، بين الغضب والقلق العميق.
رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك نشر على منصة إكس: "أصدقاؤنا الأمريكيون، أوروبا هي أقرب حليف لكم، وليست مشكلتكم... ما لم يكن هناك شيء قد تغير".
أما أنطونيو كوستا، رئيس المجلس الأوروبي، خرج بموقف حاسم قائلًا: "ما لا يمكننا قبوله هو هذا التهديد بالتدخل في الحياة السياسية لأوروبا. لا يمكن للولايات المتحدة أن تحل محل المواطنين الأوروبيين في اختيار الأحزاب الصحيحة والخاطئة".
الوثيقة تتهم أوروبا بمواجهة خطر "المحو الحضاري"، بسبب سياسات الهجرة، وانخفاض معدلات المواليد، و"الرقابة على حرية التعبير وقمع المعارضة السياسية"، و"فقدان الهويات الوطنية والثقة بالنفس"، حيث قالت "إذا استمرت الاتجاهات الحالية، ستصبح القارة غير قابلة للتعرف عليها في غضون 20 عامًا أو أقل.
وبالتالي، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت بعض الدول الأوروبية ستمتلك اقتصادات وجيوشًا قوية بما يكفي لتبقى حلفاء موثوقين.
الأكثر إثارة للجدل، الوثيقة تشيد بـ"النفوذ المتزايد للأحزاب الأوروبية الوطنية"، في إشارة واضحة إلى أحزاب اليمين المتطرف مثل التجمع الوطني الفرنسي، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب الإصلاح البريطاني.
الاستراتيجية تدعو صراحة إلى "تنمية المقاومة ضد المسار الحالي لأوروبا داخل الدول الأوروبية" - وهو ما وصفه المراقبون بأنه دعوة لتغيير الأنظمة الدستورية.
كاتيا بيغو من معهد تشاتام هاوس في لندن قالت لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، "يجب على القادة الأوروبيين أن يفترضوا أن العلاقة عبر الأطلسية التقليدية قد ماتت"، أما المؤرخ والكاتب البريطاني تيموثي غارتون آش وصف الوثيقة بأنها "أم جميع أجراس الإنذار لأوروبا"، مضيفًا: "إنها تعلن بشكل صريح المعارضة للاتحاد الأوروبي. إنها خطاب جي دي فانس نائب ترامب في ميونخ، لكن بجرعات مضاعفة وكسياسة أمريكية رسمية".
من جهته حذر معهد "بروكينغز" من أن الإدارة الأمريكية تدعم الآن "تحالف المراجعين"، الذي هدفه الرئيسي هو "تفكيك مؤسسات الاتحاد الأوروبي"، كما أشارت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" إلى أن اللغة المستخدمة تذكّر بـ"الإشارات الأمريكية إلى المعارضين السوفييت خلال الحرب الباردة"، حيث تتحدث الوثيقة عن "تنمية المقاومة" داخل أوروبا كما لو أنها دولة معادية.
موسكو رحبت بالوثيقة، حيث وصف مسؤول روسي الاستراتيجية بأنها "تتوافق بطرق عديدة" مع "رؤيتنا"، لكن جوزيبي سباتافورا من معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية قال: "حسب الاستراتيجية، الأوروبيون خلقوا هذا التهديد بأنفسهم جزئيًا بسبب جنون العظمة. وبالتالي، من الصعب رؤية طريقة للحلفاء الأوروبيين ليصبحوا أو يبقوا مفيدين للولايات المتحدة"، على حد تعبيره.
إيان ليسر، المحلل الأمني، أوضح: "هذا يؤكد الاختلاف الأساسي في المقاربة الأمريكية والأوروبية الحالية للحرب في أوكرانيا وروسيا. الإدارة الأمريكية الآن ترى هذا ببساطة كمشكلة مزعجة يجب إصلاحها وإبعادها عن الطاولة".
الاستراتيجية تلوم المسؤولين الأوروبيين على عرقلة الجهود الأمريكية لإنهاء الصراع، وتنص على أن "إنهاء الأعمال العدائية" ضروري لإعادة "الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا" ولـ"بقاء أوكرانيا كدولة قابلة للحياة" - لغة لا توحي بدعم قوي للسيادة الأوكرانية الكاملة.
مجلة "فورين بوليسي" كتبت: "ترامب يريد إنهاء حرب أوكرانيا، أساسًا لأنه يراها عقبة تمنع تطبيع العلاقات الأمريكية-الروسية - خاصة الصفقات التجارية المخططة بين حاشيته وأصدقاء الكرملين".
الوثيقة تعيد إحياء "عقيدة مونرو" من العام 1823، والتي كانت تهدف في الأصل إلى معارضة التدخل الأوروبي في نصف الكرة الغربي، لـ"استعادة الهيمنة الأمريكية" في المنطقة. "أيام الولايات المتحدة التي تدعم النظام العالمي بأكمله مثل أطلس قد انتهت"، تعلن الوثيقة في مقدمتها.
دانيال فريد من مجلس الأطلسي، الذي خدم في إدارتي بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، قال: "العداء الأيديولوجي للاستراتيجية تجاه أوروبا يتحد مع مرارتها الضمنية بشأن الإفراط الأمريكي المتصور والازدراء العام للقيم لدفع الانسحاب الأمريكي من قيادة العالم الحر - وحتى مفهوم العالم الحر نفسه".
من جهته، أطلق رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الاثنين جهدًا جديدًا لتوحيد الدعم لأوكرانيا، مستضيفًا محادثات مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرز.
وقال وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول في برلين إن أوروبا قادرة على التعامل مع قضاياها دون تدخل خارجي، مضيفًا: "نرى أنفسنا قادرين على مناقشة هذه الأمور بالكامل بأنفسنا في المستقبل، ولا نحتاج إلى نصائح خارجية".
وكتبت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور": "للمرة الأولى منذ 7 كانون أول/ ديسمبر 1941، لم تعد أمريكا ترى نفسها قائدة العالم الحر".
فما كان يُعتبر محور العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية - التحالف عبر الأطلسي والنظام الليبرالي الدولي - يتم الآن تفكيكه بشكل منهجي من قبل الرئيس الذي وعد بـ"أمريكا أولاً". السؤال الذي يواجه أوروبا الآن ليس ما إذا كان يجب عليها التكيف، بل كيف - وبأي سرعة - يمكنها بناء استقلالها الاستراتيجي قبل فوات الأوان.